محمد العريان * بعد تقرير الوظائف الضعيف لشهر مايو الذي أضاف مؤشراً جديداً على هشاشة الأداء الاقتصادي الأمريكي، قد تتزايد مبررات توجس مجلس الاحتياطي الفيدرالي وتراجعه عن رفع أسعار الفائدة خلال اجتماع لجنة الأسواق المفتوحة الدوري أمس.والحقيقة أن هذا التوجس والحذر كان مطلوباً من المجلس خلال السنوات الماضية. إلا أن سياسة المجلس النقدية كانت تتطور، خلافاً لما هو عليه حال البنك المركزي الأوروبي، انطلاقاً من كونه مؤسسة لا تبحث عن مبررات لتشديد سياستها النقدية تدريجياً. وهكذا فإن المجلس لن يقدم على رفع أسعار الفائدة في اجتماع أمس بل سوف يستمر في إرسال الرسائل للسوق حول الأسس التي تستند إليها رؤيته لعملية رفع محتملة قبل نهاية العام، وربما يعرج على الخطوط العامة لخطته الخاصة بتقليص ميزانه الختامي تدريجياً إلى ما دون 4.5 تريليون دولار.وقد أضيف عنصر تقرير الوظائف المحبط ومعدلات الأجور العصية على التحسن، إلى عوامل محبطة أخرى كشفت عنها البيانات الاقتصادية، تتعلق بالمشاكل التي يواجهها الاقتصاد في تحقيق معدل نمو يفوق 2% أو ربما حتى الاحتفاظ بمعدلات نموه الأقل من ذلك. وفي ضوء ذلك تتسع الهوة بين ما يكشف عنه الواقع العملي للاقتصاد، وتلك الصورة التي ترسمها توقعات ورهانات فعاليات الأسواق من مستثمرين ومحللين على حد سواء.وفي ذات الوقت ومع خروج واشنطن من تحقيق ودخولها في تحقيق جديد حول مشاكل تبدو بلا نهاية، بات الرهان على تسريع الكونجرس مناقشة خطة الإصلاحات التي يحملها برنامج ترامب ومن ثم وضعها موضع التنفيذ، رهاناً واهماً، حتى وإن كان الجمهوريون يسيطرون على القرار في المجلس العتيد. وفي ظل هذه المعطيات تفقد سندات الخزانة الأمريكية والدولار مصادر دعم كل منهما وهو ما كشفت عنه تداولات السندات فئة السنوات العشر الأسبوع الماضي، حيث تراجع العائد عليها إلى 2.22%، بينما تراجع الدولار إلى مستويات لم يعرفها منذ نوفمبر/تشرين الثاني شهر الانتخابات الأمريكية.وتبدو حالة تكرار نفس الشعور لدى متابعي البنوك المركزية. فمعظم هذه العناصر برزت على السطح في مرات سابقة بعد أزمة عام 2008 المالية العالمية، حيث تبنت البنوك المركزية سياسة نقدية حمائمية غير مألوفة ابتعد الاحتياطي الفيدرالي فيها بشكل متكرر عن المعطيات الاقتصادية السابقة والمصاحبة لقرار رفع أسعار الفائدة. ومثل هذا التحرك يعكس استراتيجية مزدوجة هجومية ودفاعية.فعندما هيمنت فكرة منع البيت الأبيض الإصلاحات الداعمة للنمو وتبني سياسة مالية أكثر جدوى، صار المجلس «اللعبة الوحيدة في المدينة» فيما يخص المعايير الفعالة لدعم النمو، رغم الإدراك المتزايد داخل البنك المركزي وخارجه بأن أفضل ما يمكن إحرازه بالوسائل المتاحة هو شراء الوقت حتى يتوصل الساسة إلى توافق على تحرك مشترك. ومع فصل تقييم مخاطر الأصول عن أساسيات الاقتصاد، شعر المجلس بالقلق حيال مخاطر اضطراب الأسواق الذي قد تسببه أي خطوة لتشديد السياسة النقدية مسبقاً، وبالتالي زعزعة ثقة الأسر الأمريكية والشركات ما يضع عراقيل جديدة في وجه النمو.ومع الزمن أيقن أعضاء المجلس أن مثل هذه السياسة لن تكون خالية من المخاطر الاقتصادية والمالية والمؤسساتية وحتى السياسية. ونتيجة لذلك ازدادت قناعة المسؤولين بضرورة التحرك تدريجياً نحو تطبيع السياسة النقدية.وكشف قرار رفع الفائدة في مارس الماضي عن التباين بين توقعات الفعاليات الاقتصادية فيما يخص رفع أسعار الفائدة والتي لم تتجاوز 30% وما صدر عن بعض أعضاء المجلس من تلميحات قبيل القرار لتهيئة الأجواء لهكذا خطوة وهو ما رفع توقعات السوق إلى 90% خلال أسبوع.وفي أجواء التحضير لاجتماع اليوم أكد عدد من أعضاء المجلس رؤيتهم بخصوص استمرار هذا النهج، رغم أن صورة الاقتصاد لا تشجع على الرفع. ورغم توقع فعاليات السوق اتخاذ القرار بالرفع اليوم إلا أن المسؤولين في المجلس لا يرون ضرورة لأخذ قناعات السوق بعين الاعتبار.ولكي يعزز المجلس توجهه هذا لا بد أن يرفق قرار رفع أسعار الفائدة هذه المرة مع تأكيدات باحتمال رفعها مرة أخرى هذا العام، وتقديم إيضاحات حول الخطوط العامة لخطة تقليص ميزانه الختامي بدءاً من عام 2018. وهذا هو المرجح أن يفعله. وهذا لا يعني أن المجلس مجبر على رفع أسعار الفائدة بغض النظر عن وضع الاقتصاد. لكنه في الوقت الراهن بحاجة لأن يشهد تباطؤاً اقتصادياً حاداً قبل أن يقدم على تغيير سياسة مؤسسة لم تعد تبحث عن مبررات لاستمرار سياستها الحمائمية.* كبير المستشارين في شركة أليانز
مشاركة :