موضوعات القصص التي ضمها الكتاب بين الحب والكراهية والموت والحياة وكثيرا ما تلبث في مكان ما بينهما، متراوحة بين المأساة العميقة والكوميديا السوداء ممزوجة بغرائبية لها أصداء من الحكايات الفلكلورية الأيرلندية. ومن أبرز الأسماء التي ضمتها الأنطولوجيا: شون ماكماثونا، آيليش ني غيني، أنجيلا بورك، ميخال أو روريك، ميشيل أو كونيل، ديردرا برينن، داهي أو موري، جابرييل روزنستوك، وغيرهم. قدم للأنطولوجيا ناقدان متخصصان في الأدب الأيرلندي؛ الأول كولُم توبين والثاني برين أو كاهْنوكور، يرى الأول أن قصصها تبحث عن الصوت الكامن تحت الصوت، الشيء الخارق للطبيعة الذي يحلق فوق الطبيعي، الإيقاع اللامع في الجملة العادية، الصلة الغريبة بين القصة المحلية وجذورها في الأسطورة والحكاية الفلكلورية، وفكرة الزمن كشيء يتم اللعب به أكثر من قبوله كقاعدة. هجائن سردية ويضيف كولُم توبين في مقدمته للأنطولوجيا، الصادرة في نسختها العربية أخيرا عن دار صفصافة للنشر بترجمة عبدالرحيم يوسف، إنه “لا توجد قصة من هذه القصص تأخذ العالم كأمر مُسلَّم به، أو تأخذ مجتمعا معروفا وفقا لشروطه. هكذا يصر الأدب القصصي على سلطانه الخاص، ويُبنى عالمه بقواعد جديدة. لا يستطيع أحد أن يأخذ الزمان أو المكان كأمر مُسلَّم به، والجسد ذاته، كما في قصة ديردرا برينِن ‘بانانا بانشي’، إذ هو مساحة تخييلية مفتوحة للإيحاء”. ويقول الناقد إنه “في بعض القصص تتم السخرية واللعب بمفهوم القصة نفسه منذ البداية. الفقرة الثانية من قصة شيموس ماك آنياده ‘الإكليشيهات الثلاثة’ تبدأ: ستستمتع بهذه القصة، لأنه صدِّق أو لا تصدِّق، هذه قصة قصيرة حقيقية مليئة بالدم مثيرة للجدل ما بعد حكائية، أو بكلمات أخرى هذا عمل فني مبتدع تماما مصطنع تم تجميعه عن قصد، إنه فخم، واعٍ بذاته ووسطي ولا يدور عن أي شيء مطلقا باستثناء نفسه. سيلاحظ القارئ المفارقة في كلمة ‘حقيقية’“.لا توجد قصة من هذه القصص تأخذ العالم كأمر مسلم به، هكذا يصر الأدب القصصي على سلطانه الخاص ويشير كولم توبين إلى أنه في كل قصص الأنطولوجيا “هناك غرابة تحيط بالحياة المحلية، بالمكان المحلي. المكان نفسه يتم نقله بعيدا عن العادي. لذلك عندما تفتتح قصة داهي سبراول ‘ثمة شخص آخر يعيش هنا’ باثنين يشاهدان التلفزيون في منزل هادئ في شارع هادئ، فإنه من الواضح أن الدراما لن تنشأ من المحلي، بل من مكان يجري تشويشه”. وأكد أن ما يتعامل معه كل كاتب وكاتبة في هذا الكتاب هو الحرية أكثر من القيود، وأضاف “إنهم يبحثون عن الهجائن أكثر من بحثهم عن التقاليد النقية، إنهم في حالة لعب في خيالهم القصصي كما هم في حالة لعب في عملهم. ربما تمتلك اللغة التي يستخدمونها جذورا نبيلة وقديمة، لكن ما يهم هؤلاء الكُتَّاب هو كيف انكسرت هذه الجذور وكيف نمت حولها الأعشاب والحشائش. وخلص كولم مؤكدا أن الأنطولوجيا “عرض غامض لفضائل هذه البداية بواسطة كُتَّاب على وعي أيضا بأصداء التقليد القديم، والحرية التي يقدمها هذا المزج، والقصة التي يحكيها”. الفلكلور والحداثة الناقد برين أو كاهْنوكور في مقدمته التي جاءت بعنوان “القصة القصيرة ما بعد الحداثية المكتوبة باللغة الأيرلندية” رأى أن القصة القصيرة ما بعد الحداثية المكتوبة باللغة الأيرلندية تبدو منبتة الصلة تماما بالنتاج الثقافي الذي أنتجه الإحيائيون الأوائل. لكن صراعها مع الميتا- سردي، ورفضها للخطاب السائد، وللواقعية، والعقلانية، واحتضانها للبذاءات والتدنيس ليست إثبات أصالة راديكالية للذات بقدر ما هو عودة إلى الأصول.سرد متمرد ينبغي أن يتم إدراك هذا التيار في سياق أوسع وأن يتم الإقرار به كإعادة اتصال بالقيم الجمالية المبكرة ما قبل الإحيائية أكثر من كونه هجرا لما هو راسخ حتى ولو كان جديدا بشكل نسبي. إن الممتع والفانتازي، الغريب والمدهش، السحري والخارق، تعود كموضة مرة أخرى في أدب معاصر مكتوب باللغة الأيرلندية، تماما كما كانت منذ زمن طويلٍ طويل في مكان قصي بعيد. يقول كاهْنوكور “إذا كانت الحداثة قد حلت محل الفلكلور كأسلوب أدبي وجمالي سائد، فإن سلطانها مع ذلك كان قصير العمر نسبيا. ميَّز ظهور اللاواقعية كأسلوب مهيمن في خطاب اللغة الأيرلندية ثمانينات القرن العشرين. وهذه التطورات اللاواقعية -الانطواء، والهاجس الذاتي، والمزاج الكئيب، والميل إلى الخيالي- ارتبطت بقَدَر اللغة الأيرلندية كلغة أقلية في عالم يتحدث الإنكليزية وبالتهديد المحسوس والمتزايد بالتجانس الثقافي مع عضوية أيرلندا الحديثة في السوق الأوروبية المشتركة”. ويضيف كاهْنوكور”مع ذلك ربما يكون الواقع مختلفا إلى حد بعيد. هذه القصص أكثر من كونها تمثل نفورًا أو مقاومة للتعامل مع الواقع المديني، ربما لا تمثل فقط مشاركة استباقية واعتناقا طوعيا لحساسية وأسلوب ما بعد حداثي، لكن كذلك عودة جزئية لجمالية فلكلورية. إن اختزال الزمن والمسافة والمكان بواسطة التطورات في وسائل الاتصال الإلكترونية، والتمدين، وفي ما بعد العولمة -لأيرلندا- وسهولة وسيولة العلاقات السوسيو-اقتصادية قد خلقت أزمة في التمثيل والهوية، ليس فقط بين المتحدثين بالأيرلندية، لكن في العالم كله”. ويلفت كاهْنوكور من جهة أخرى إلى أن هذه القصص ما بعد محلية وعالمية في جاذبيتها -وبعيدا عن اعتناقها للفلكلور الأيرلندي كمنصة انطلاق- ليست محلية ولا إقليمية. إنها تتحدانا بمرح وتسامح لنواجه الموضوعات الآنية لزمنها، والحاجة الأبدية إلى إجابة على أسئلة عمَّن نكون وعمَّا نؤمن به ولماذا.
مشاركة :