يقدم الكاتب السعودي محمد بن ربيع الغامدي في كتابه "ذاكرة الفواجع المنسيّة.. أساطير وحكايات شعبية من تهامة والسراة" الصادر أخيرا عن مؤسسة "أروقة للنشر والترجمة والدراسات"، مجموعة من النصوص الحكائية المتداولة بين الناس في قرى منطقة الباحة، يتداولها الكبار فيما بينهم ويرويها الكبار للصغار، وتجري على ألسنة الرعاة والمزارعين والسمّار في ساعات العمل وفي أوقات الراحة في طول المنطقة وعرضها. يستثنى من نصوص المجموعة نص بعنوان "جبل قاف" قال الكاتب إنه نص سمعه من راو يمني "كنت أنصت إلى كثير من حكاياته خلال فترة تقع بين عامي 1386 - 1390هـ، ومع أن جبل قاف كان حاضرا في ذاكرة أبناء الباحة إلا أنني لم أجد من بينهم من يتعرف على النص بتفاصيله المنشورة هنا". ولفت الغامدى إلى أن "جميع هذه النصوص قد وصلتني عبر رواة من مناطق مختلفة داخل الباحة، إلا نصوص السيّر الشعبية فهي نصوص قد نقلتها عن أصول مخطوطة، لم أضف إليها شيئا غير علامات الترقيم، والسيّر الشعبية هي حكايات يقرأها بعض الفقهاء على سامعيهم المتحلقين حولهم في بيوت ذوي اليسار، كما يفعل الحكواتي في مدن الحجاز ومصر والشام. وبطبيعة الحال فإن هناك حشدا من الرواة قد سمعت منهم، أو قرأت عليهم ما سمعته من غيرهم تحقيقا لنصّه، وهذه هي أسماؤهم: ربيع بن أحمد بن جميع، محمد بن صالح بن ربيع، أحمد بن كلي، أحمد بن ربيع، جريبيع الزهراني، محمد بن سالم بن خمّي، عبدالله بن سعيد بن مهدي، أحمد بن حامد الأعمى، مطر بن جمعان بن مقبول، محمد بن جمعان بن مقبول، علي بن جعير الأيتام، سعد الحسن، رجب الفريخ، مشرف بن عيسان، محمد بن سعيد دلبخ، الحاج عبدالله اليماني، سعيد بن عيضة كوعان، محمد بن منسي، سعيد بن علاس، صالح بن مرزن، حمدان بن محمد المحي، حسين بن أحمد القحم، سعد بن صالح بن ربيع، عبدالله الرباعي، عبدالله الظفيري، راشد بن داحش، علي بنّان، عبدالعزيز المثري، ذياب بن سعيد، أحمد بن كتّة، محمد بن سابي الرغدواني رحم الله من مات وأمد في عمر الحيّ منهم". وسرد الغامدى في مقدمته سيرة عمله قال "تدوين الأمثال كان سهلا، أما الحكايات فكنا نستمع إليها بشغف دون أن ندون منها شيئا، كانت مهيبة وكان لرواتها ذات الهيبة التي تجلل حكاياتهم، وكانوا جميعا من كبار السن المولعين بترديد الحكاية الواحدة عدة مرات، وربما يتخصص الواحد منهم في حكاية بعينها. انتقلت في عام 1396هـ من الطائف إلى الباحة، وقد كانت الباحة في تلك السنوات ريفا حقيقيا، كانت الأمثال العامية والحكايات والأشعار الشعبية تمشي معنا جنبا إلى جنب، في المساريب، وفي المجالس، وفي الحقول المسقوية والعثرية، في المرعى والمفلى، وحتى في العمل، وفي المسجد أيضا كنت تجد رائحة القرية عابقة في محرابه ومنبره، وفي عزْوَرَته وتحت ظُلَّتَه. وقال "في الفترة ذاتها كان أبي معي، وكان رجلا مخضرما في كل شيء، فهو يحفظ القرآن الكريم، وهو أيضا دائرة معارف شعبية تمشي على قدمين، عاش حقبة في السراة وحقبة أخرى في تهامة، وعاش حقبة من عمره في بلاد زهران ومثلها في بلاد غامد. وكانت قريتي حافلة برجالها الذين تقدمت بهم السن فزادتهم حكمة وإدراكا، وزادتهم تواضعا فما كان أحب للواحد منهم من سؤال تسأله فيبحث إجابته في أضابير تجاريبه، كانوا هم جلسائي معظم الوقت، ورفاقي كل خميس، عندما أحملهم معي في سيارتي الداتسون فنأخذ طريقنا سويا إلى سوق الباحة الأسبوعي، نتبضع منه حاجاتنا. في العام الثاني من أعوامي في منطقة الباحة، كانت إدارة تعليم الباحة قد قررت لي محاضرة حول الموروث الشعبي وطرائق تنفيذه في المسرح المدرسي ضمن المحاضرات الأساسية للدورة السنوية التي كانت تقيمها لصقل المشرفين على المسرح المدرسي في مدارس منطقة الباحة. تلك المحاضرة منحتني فرصة أفضل لمراقبة الموروث الشعبي ورصده وتدوينه وتصنيفه، جعلت لي موقعا أشمل وأدق، فتعرفت خلالها على جوانب أخرى للموروث الشعبي، وعرفت أيضا وسائل لم أكن أعرفها في حفظ الموروث وتوثيقه. وأشار الغامدي إلى أنه تكونت عنده تبعا لذلك مكتبتان "الأولى تضم الكتب التي تبحث في تاريخ الباحة وموروثاتها الشعبية، أو في الموروث الشعبي بصفة عامة ونظرياته ومناهج دراسته ووسائل توثيقه، والثانية تضم أوعية أحفظ فيها كل ما وقع تحت يدي من نصوص الموروث الشعبي في الباحة، من مدونات أو تسجيلات أو تصاوير، وما هذه الحكايات التي أقدمها هنا إلا بعض ما حفظته أوعيتي تلك". • نماذج من النصوص - جبال الثور جعل الله للناس مهادا طيبة أسكنهم فيها، كانت سهلا ممتدا من بلاد أناضول حتى بلاد الصومال، وبث فيها الخلق من حمر وبيض وخضر، ورزقهم من الثمرات، وجعل بلادهم وافرة الخير، غزيرة الماء، وكان الذي في بلاد أناضول يرى الذي في بلاد الصومال رغم المسافة، بسبب شدة الاستواء. دارت عجلة الزمان، فنسي الناس ما أنعم الله به عليهم، فأول شيء فعلوه تنابزوا بالألقاب، ثم تحاسدوا على الأرض، ثم على المال، حتى ضعفت في نفوسهم قيمة الإنسان، وأهملت موازين العدل فتطاول الأقوياء على الضعفاء، وخنس الحق فاستبد الطغاة وعم الطغيان. صم الناس آذانهم عن كل دعوة فيها الخير لهم، وتولوا كبرهم فعاقبهم الله بالزلازل، زلازل شديدة مدمرة اجتاحت السهل بكامله، فتهدم منه ما تهدم، وغمر الماء ما غمر، جعلت بعض ذلك السهل مرتفعا وجعلت بعضه منخفضا. فأما شرقي السهل فقد غاض ماؤه واحترق نباته، وأما أوسطه فقد وعر سطحه وتجرف مدره، وأما غربه فقد زاد حره وكثر ملحه، وتشتت الناس فاختلط الأحمر بالأبيض بالأخضر، وتكسرت الألسن فاختلفت اللغات واللهجات، واغترب الناس وكانوا قبلها في متعة وإيناس. بدأ الناس أول ما بدأوا في البحث عن ماء للشرب، فكانوا إذا وجدوا ماء قالوا: ته ماء، أو شيء ما، أو يئ ماين، حسب تكسّر ألسنتهم، فسميت أماكن الماء بالشام عند من قال: شيء ما، وتهامة عند من قال تِه ماء، واليمن، عند من قال: يئ ماين. وجد الناس الماء، لكن السهل الذي كان لهم لم يعد كما كان، أصبح السهل أرضا وعرة صعبة تستعصي على الزراعة، فلجأوا إلى الله، وعاد الناس إلى عبادة الله فاستغفروه وسبحوا باسمه تائبين منيبين. سخر الله لهم الثور ليثير الأرض الوعرة، فكان أمرا عجيبا ما لهم به سابقة، ولذلك سميت تلك الجبال الجديدة الوعرة باسم: جبال الثور، فما رؤي الثور في غيرها قبل ذلك، وتناقلت الألسن الاسم مع تعاقب الأيام، وتحرف من مكان إلى مكان، فهو طوروس، والطور تارة، والشراة تارة أخرى، والسراة أحيانا. شعرة الجعير يحكى أن امرأة من أجيال قد خلت خشيت أن تذبل مع الأيام محبة زوجها لها، فيتركها إلى غيرها ويتزوج ثانية، جارة عليها (ضرة) تشاركها معيشتها وتحيلها إلى نصف زوجة في أعدل الأحوال. المرأة - في بحثها عن منقذ - توسمت خيرا في "فقيه" القرية واعتقدت أنه بحكم معاشرته للكتب سيجد لها حلا، ورقة محبة يكتبها فتجمع بها قلب زوجها إلى قلبها، تربطه بها ربطا لا يستطيع معها الفكاك ولا يجد في نفسه لامرأة أخرى أدنى رغبة. تربصت بالمكان والزمان حتى آنست منهما فرصة فعرضت على فقيه القرية مشكلتها، قالت له: داخلة عليك دخالة الضعيف على القوي أن تكتب لي عملا أربط به قلب زوجي فأشد به وثاقه وأحول بينه وبين الزواج من ثانية تعكر صفوي وتنهبه مني. بادر الفقيه إلى توجيهها بأن القلوب بيد مالك الملك جلّ شأنه وعظم سلطانه، لا يفرق ولا يجمع إلا هو سبحانه وتعالى في ملكوته، وما الأنس والجن إلا عبيد تحت رحمته لا يملكون لبعضهم نفعا ولا ضرا. لكن السيدة المسكينة – تحت وطأة القلق على مستقبلها في كنف زوجها الذي تحبه - ألحت وازدادت إصرارا، بل وتطاولت على قامة فقيه القرية وعلى علمه حينما قالت بأن هناك من الكتابات ما يفرق وهناك ما يجمع، فإن كان التفريق حراما فالجمع هو حلال بل حلال الحلال. فكر الفقيه في شأن هذه المرأة المسكينة ورأى أن يعمل عقله في هذه المسألة، خاصة أنه إن لم يجد لها حلا يساعدها به فسوف تذهب إلى غيره وسوف تعرض نفسها لمكر الماكرين ولاحتيال المحتالين. جلس الفقيه - وكان واقفا - وقال لها: كتابة ورقة المحبة أمر سهل، لكن العمل لا يكتمل إلا بثلاث شعرات من شارب الجعير (الضبع) سأكتب الورقة ثم أطويها طيا على الشعرات الثلاث، طيات ثلاث، ثم تدفن في مذود حمارتكم والشمس في كبد السماء، وبعد أيام ثلاثة سيبدأ شعر زوجك في التساقط، يتساقط ويتساقط فلا يكتمل القمر ويصبح بدرا إلا ورأس زوجك يبابا لا شعر فيه. سألها: هل تقبلين بزوج أصلع؟ قالت: أقبل. زوج أصلع أفضل من نصف زوج، قال الفقيه: إذن بادري بإحضار الشعرات الثلاث، ثلاث شعرات من شنب الضبع قالت وقد جحظت عيناها: شعرات جعير؟ قال: نعم. تمتمت بينها وبين نفسها: شعرات جعير. ثم رفعت رأسها وقالت: وكيف؟ كيف آتيك بشعرات ثلاث من شنب الضبع؟ قال: تصرفي. هذا شأنك أنتِ وليس شاني أنا، ثم دخل داره وأغلق الباب من خلفه. مرت الأيام يوما يجر يوما، وبعد شهر أو زيادة جاءت السيدة من أعالي الجبال وفي يدها شعرات ثلاث، جاءت بها إلى الفقيه قائلة: هاك، هذه هي الشعرات الثلاث التي طلبت بالوفاء والتمام. عقدت الدهشة لسان الفقيه واستبد به الذهول، بل جحظت عيناه وهو يتناول من يدها الشعرات الثلاث، وحيث إن الأمر يصعب تصديقه فقد بادر إلى سؤالها: متأكدة أنت من هذه الشعرات؟ متأكدة أنها شعرات ضبع ومن شاربه على وجه التحديد؟ ثم كيف تيسر لكِ ذلك؟ كيف امتلكتِ الشجاعة والجرأة حتى حصلتِ على هذه الشعرات من شارب ضبع مفترس؟ قالت السيدة وعلى وجهها علامات الرضى: كنت أقف الساعات الطوال غير بعيد عن مغارة الجعير (الضبع)، وبقيت على هذه الحال عدة أيام حتى ألف رؤيتي، ثم اقتربت أكثر ومكثت أياما أكرر ذلك في كل يوم حتى ألف رؤيتي، ثم اقتربت أكثر وأكثر ومكثت أياما على تلك الحال حتى ألف قربي، وهكذا شيئا فشيئا ويوما فيوما حتى كنت يا فقيهنا أجلس على فم المغارة وهو يذهب ويعود ويذهب ويعود باطمئنان عجيب، ثم كنت أرمي له قطعا من اللحم فيأكلها، ثم أرميها في المرة الثانية لمكان أقرب من المكان الأول، ثم أخذت في إطعامه اللحم بيدي، وكلما آلفني اقتربت منه أكثر وأطعمته أكثر، ثم زادت الحميمية بيننا حتى أصبحت أربت على ظهره وأمرّر يدي على هامته فتغشاه السكينة حتى ليغفو الغفوة على ركبتي لا يخشى مني خطرا ولا أنتظر منه اعتداء. نظر إليها الفقيه فاغرا فاه ثم قال لها: يا أمة الله، كل هذه المحاولات من أجل شعرات ثلاث؟ أيام طوال وأنت تحتالين على الضبع حتى تمت لك السيطرة عليه، وهو ضبع مفترس وأنت امرأة وليس معك أي سلاح سوى سلاح الصبر والعزيمة؟ قالت المرأة والفخر يملأ منخرها المحلى بالزمام: نعم، ولو عدت إليه الآن لظفرت من شعره بما أريد، لقد أصبح معي وكأنه قطة أليفة، بل قد تكون القطة أصعب مراسا في بعض الأحيان. قال الفقيه: لقد كان لك ذلك دون سحر أو عمل أو طلاسم، كان لك بالمسايرة والمسايسة والصبر والرفق والحكمة والأناة. أليس ذلك كذلك؟ قالت: بلى، قد كان، لقد بذلت معه من الصبر والحكمة والأناة والمسايرة والملاطفة والمسايسة ما لم أبذله مع أحد من الخلق، بشرا كان أم حيوانا. قال الفقيه: إذن افـعلي مع زوجـك يا أمة الله ما فعلتِ مع الضبع، افعـلي ذلك "عليك هبايب الله"، سايسيه ولاطفيه وارفقي به وترفقي عليه وسايريه حتى يصبح أليفا مثلما أصبح الضبع أليفا، المحبة والكراهية نصنعها نحن يا أختاه، لا يصنعها السحر ولا تصنعها الطلاسم، لقد قلمتِ أظافر سبع مفترس بالعقل والحكمة واللين والرفق والرحمة فكيف لا تمتلكين قلب زوجك بشيء من العقل والحكمة واللين والرفق والرحمة؟ نظرت المرأة إلى الأرض، كانت تحدق في نقطة ما عند أطراف أقدامها ولم تنتبه إلا على صوت باب الفقيه وقد أوصده من خلفه، ضحكت ضحكة يخالطها الحياء ثم انطلقت صوب دارها. محمد الحمامصي
مشاركة :