صيف بلا تحرش يمينة حمدي خلال تجربتي في الإقامة بلندن على مدى السنوات الماضية، أكاد أكون مراقبة لطبيعة الحياة فيها، لاكتشاف أسرار هذه المدينة العميقة التي توصف بمتحف كبير. المتحف لا يمكن أن يقتصر على المباني والطرقات والمنتزهات، وإنما على السلوك الاجتماعي الموجود في لندن، فرغم أن المدينة تضم المئات من الإثنيات العرقية والدينية، وهناك أكثر من ثمانين لغة تعيش بجوار اللغة الإنكليزية، فإن السلوك الاجتماعي القائم في المدينة يثير اهتمامي دائما. لا أتحدث عن الانضباط فقط، الذي تغلغل في كل درجات ومستويات الحياة اليومية للبريطانيين، بل عن الإنسان في هذا المجتمع الكبير الذي يمضي وشأنه من دون أن يحملق ويبحلق في ما يرتديه غيره من ملابس أو يسخر منه. كشف الأسبوع الماضي مع ارتفاع درجة الحرارة في لندن الحرية الكبيرة لدى النساء في ارتداء ملابس صيفية خفيفة وقصيرة في نوع من المتعة والابتهاج بصيف قصير يمر على لندن. هذه الملابس لو ارتديت في أي بلد عربي لوصفت بأنها تعد على الأخلاق الحميدة، لكنني لم أر أو أشعر بأن أي من النساء اللواتي ارتدين الملابس القصيرة في لندن كن يقصدن في قرارة أنفسهن التعدي على مثل هذه الأعراف الاجتماعية. النساء في لندن ارتدين السراويل القصيرة والقمصان الخفيفة لأن الطقس كان ساخنا ودرجة الحرارة تشجع على ذلك، ولم يستعرضن مفاتنهن في واقع الأمر. لم أر خلال حركتي المستمرة وتسوقي اليومي أن هناك من تحرش بامرأة في لندن لأنها ترتدي هذه الملابس الخفيفة. لا أعني ألا وجود لتحرش في لندن، فهذا أمر مستحيل، لكن طبيعة المجتمع اللندني المنفتح لا يعزو التحرش إلى نوعية الملابس التي ترتديها المرأة، وإلا لكانت نسبة التحرش في الصيف أكثر منه في الشتاء، بينما لا توجد مثل هذه الأرقام لتؤكد ذلك. التحرش لا يقترن بملابس المرأة تحديدا، بل بطبيعة الرجل وسلوكه غير المهذب، فنساء لندن تمتعن بأقصى ما تسنى لهن بالطقس الساخن والملابس الخفيفة ولم يتعرضن للتحرش لهذا السبب، بل يمكن أن تتعرض النساء للمضايقة والتحرش سواء ارتدت الملابس الخفيفة أو الشتوية الثقيلة. لذلك اقترح أن نعيد دراسة أسباب التحرش وخصوصا الطبيعة النفسية للرجال الذين يرتكبون مثل هذا السلوك، هل هو عائد للكبت الذي يعانون منه، أم للقمع الديني والاجتماعي، أم لتربيتهم الاجتماعية غير السوية. التحرش كما أعتقد وكما كشفته لي طبيعة المجتمع اللندني أكبر من تعلة ملابس المرأة، وهذا بطبيعة الحال مختلف عما هو في المجتمعات العربية، لأن ما ترتديه المرأة في المجتمع البريطاني لا يمكن أن ترتديه المرأة في المجتمع العربي، إلا إذا تغيرت نظرة المجتمع أصلا للمرأة. ما أريد أن أقوله، هو إن أسباب التحرش لا يمكن أن تنحصر في سبب ضيق واحدة تقف وراءه ملابس المرأة أو زينتها، بل الأرجح أن أسباب التحرش في مجتمعاتنا يغذيها اضطراب غرائزي ينتقل عبر الأجيال، ويكرسه موروث ثقافي متشدد هدفه الوحيد امتهان جسد المرأة واستغلاله جنسيا وجسديا. كاتبة تونسية مقيمة في لندن سراب/12
مشاركة :