السلم الاجتماعي ليس مسلّمة نهائية، وأن تمرين السيطرة على الانفعالات الجماعية ليس مضمونا، وأن حجم الأخطار التي يتعرض لها الفرد قد يولّد استدعاء لأحقاد تطال العلاقة التاريخية بين شرق وغرب وبين إسلام وغير مسلمين. ولا ريب أن بلدان العالم العربي تقدم منذ سنوات مثالا صارخا على كيفية خروج العصبيات الحاقدة بين قبائل وعشائر وأديان وطوائف ومذاهب على النحو الذي تشهد عليه فصول الفتن المتفجرة في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، والتي تقيم الدليل على أن السلم الذي كانت تعيشه تلك التعدديات في ظل سلطة الأنظمة التي حكمت تلك البلدان منذ الاستقلالات، هو ناتج عن وأد بالقوة لتلك الأحقاد وليس نتاج قضاء على تلك العصبية وإزالة لتلك الأحقاد. قد لا يمثل الاعتداء الإرهابي الذي تعرض له مصلون مسلمون بالقرب من مسجد فينسبيري بارك في لندن إلا حالة منعزلة شاردة عن المزاج البريطاني العام. لكن الأمر يمثل أيضا أول أعراض إمكانية تفكك الاجماع الداخلي وتفلّت ظواهر متمردة على قواميس الليبرالية الغربية وقيمها. وسواء سيقُدٓم الأمر على أن الجاني يمثل حالة شاذة وأنه شخصية تعاني من اضطراب ومن طباع وضيعة، إلا أن تعبيرات ذلك "الاضطراب" ضد المسلمين قد تكون أول سابقة لها داخل مجتمعات الدول الغربية ولها ما يتبعها. وفي مقارنة بسيطة، فإن كل الذين اقترفوا جرائمهم الأخيرة باسم تنظيم داعش في أوروبا، بما فيهم أولئك الذين ارتكبوا الاعتداءات الإرهابية الأخيرة في لندن ومانشستر في بريطانيا، يُعتبرون حالات شاذة فاجأت جيرانهم ومعارفهم، ويوصفون بطباع غريبة وبسلوكيات مقلقة. بمعنى آخر، فإن الأورام الخبيثة التي انتفخت داخل البيئات الإسلامية استخدمت في ارتكاب آثامها حاملات بشرية ضعيفة مرتبكة يسهل شحن الكراهية داخلها. وبالتالي فإن جريمة لندن ضد المسلمين لا تعدو كونها إطلاق لوحش الحقد من عقاله بنفس الأسلوب والأدوات، وخدمة لهدف نهائي يصبو إلى قتل "الآخر" ومسخ الحضارات إلى بنياتها العرقية البدائية، والقضاء على ثقافة التواصل والانفتاح والتفاهم بين الجماعات المتعددة. في ليلة مأساة ذلك المسجد اللندني خرج ذلك الذئب منفردا يفتش عن طرائده. جاء ذلك الذئب يرد على ما قيل إنه "ذئاب منفردة" لبّت نداء قيادات تنظيم أبو بكر البغدادي في ضرب "الكفار" في بلدانهم ومدنهم وأحيائهم. قد تخرج ذئاب داعش المنفردة من بيئات توفّر في ظلاميتها وتخلّف قيمها خلفية أخلاقية تبرر للمجرم جريمته، لكن خروج ذلك الذئب البريطاني وزحفه ليلا من مدينته، كارديف، إلى العاصمة، يلبي لا شك نداء غير معلن يبثه كلام لا يخرج إلى العلن، يعبر عن مقت لتلك المخلوقات الوافدة من بعيد حاملة إسلامها وعاداتها وثقافاتها وطقوسها لغزو هوية وأسلوب عيش، وباتت تحمل مشروعا حضاريا "آخرا" يتفوّق في ديناميته وحيويته على سكينة حضارات تمّ تدجينها بحداثة ما بعد الحرب العالمية الثانية. التقط إرهابي المسجد في لندن رسائل تنظيم داعش. بدا أن التنظيم الذي ظهر قبل سنوات في الموصل ويتم القضاء عليه في الموصل هذه الأيام، يُخرِّج إرهابيين أيا تكن هوية هؤلاء. فالمطلوب وفق التوحش الداعشي هو احداث "الفتنة الكبرى" بين "دار الكفر" و"دار الإسلام" على النحو الذي يسمح بعد "الطوفان" بإقامة دولة الإسلام، ولا بأس أن يساهم بذلك ذئب كافر لعله يكون مثالا يقتدى لذئاب كافرة أخرى تخرج من ظلام المدن. استخدم ذئب مسجد فينسبيري بارك شاحنة وانطلق بها نحو المارة قرب ذلك المسجد، تماما كما فعل إرهابيو داعش في الجادة البحرية لمدينة نيس صيف عام 2016 وفي سوق الميلاد في برلين في ديسمبر من نفس العام او في جسريْ وينسمنستر ولندن بريدج في لندن مؤخرا. لا تتعلق المسألة ببساطة الأداة وسهولتها فقط، بل بالانضباط داخل مشهدية إرهاب واحدة في مقدماتها ونهاياتها، وبالاقتداء بمدرسة إرهاب واحدة، حتى لو اختلفت هوية طرائدها في الأجل القصير وتقاطعت في خلاصاتها النهائية للوصول إلى الصدام العدمي الأخير. لكن جريمة المسجد في لندن تمثل مأزقا بنيويا لتيارات اليمين المتطرف في أوروبا. عملت الشعبوية البريطانية بجدّ ومهارة ونجحت في إقناع البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي تحت شعار "بريطانيا أولا" الذي خيّل لمنظري العولمة أنها أضحت منطقا غابرا متقادما. بدا أن عهود الازدهار عائدة لتيارات اليمين المتطرف منذ أن أضحت شعاراتهم حججا يفوز بها دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة. خيّل للشعبوية أنها قادمة لحكم كل المنظومة الغربية وأن بضاعتها، التي كان محرّم تداولها في العقود الماضية، بات يجري تعاطيها بمتعة في خطب اليسار قبل اليمين. بيد أن وحشية التاريخ أوقفت هذا المدّ الطموح. قتل ترامب الترامبية نفسها. هزم الهولنديون شعبوييهم. انتخبت فرنسا الماكرونية، كمصل مضاد للترامبية وأخواتها، ثم أعاد البريطانيون تحجيم ورمهم الشعبوي ووجهوا ضربة انتخابية لتيريزا ماي وصقوريتها ضد أوروبا. فقد الشعبويون أملهم بالحكم من خلال صناديق الاقتراع وبدا أن أوروبا أبعدت الكأس المر لسنوات أخرى. عمل التطرف على تصريف سواد خطابه داخل منظومات حزبية واستحقاقات انتخابية، لكن انسداد تلك المسالك قد يعيد التطرف إلى حقيقته العنصرية السوداء التي لطالما تعمل في الخفاء فتخرج ذئابها في ليل ليضرب الـ "الآخر"، لأنه آخر. محمد قواص صحافي وكاتب سياسي
مشاركة :