تعتبر سلسلة روايات الملهاة الفلسطينية من أبرز ما كتب ابراهيم نصرالله وأوسعها انتشارًا. وهي ثمان روايات منفصلة تتناول التاريخ الفلسطيني على مدى ما يقارب 125 عامًا. كل رواية منها تغطي فترة تاريخية معينة منفصلة بأحداثها وشخوصها ولغتها عن الأخرى. وهي حسب التسلسل التاريخي: قناديل ملك الجليل، زمن الخيول البيضاء، طفل الممحاة، طيور الحذر، زيتون الشوارع، مجرد 2 فقط، أعراس آمنة، تحت شمس الضحى. وحين أصدر رواية أرواح كليمنجارو قرر نصرالله إضافتها الى هذه السلسلة لتكون بذلك الرواية التاسعة في الملهاة. وبالرجوع الى روايات الملهاة، وخاصة قناديل ملك الجليل وزمن الخيول البيضاء، نجح ابراهيم نصرالله ببراعة وحرفية في تذويب المادة التوثيقية والتاريخية وتحريرها من طبيعتها التقريرية الجافة والمباشرة، وتوظيفها ضمن سياق رواياته ونسيج احداثها وأماكانها وشخصياتها، ولن يكون الأمر مستغربًا متى ما عرفنا بأنه كاتب يتميز بالتأني والصبر على انضاج فكرة روايته وتحضير مادته التوثيقية والتاريخية والمعرفية بالعمل لعدة سنوات في تجميعها ومراجعتها قبل ان يبدأ في عملية الكتابة نفسها. ولكن حين يقول إبراهيم نصرالله عن روايته التي بين يدينا، إنه كتب هذه الرواية بعد فترة قصيرة من وقت حدوثها الفعلي وبعد عملية تحضير وبحث بسيطة، ثم يقول، إنها الرواية التي طالما تمنى ان يكتبها ويقرر إضافتها الى سلسلة الملهاة الفلسطينية، فهو أمر يدفع للتساؤل حول القواسم المشتركة بينها وبين روايات الملهاة ويثير الفضول والرغبة في قراءة العمل والتعرف على خصائصه. في روايته براري الحمى بنى نصرالله سرده على حالة جسدية وهي الحمى مستلهمًا ما يعتري الجسد من حرارة وهذيان وغياب عن الزمان والمكان لينسج رواية تغوص في النفس البشرية حين تعيش حالة الضياع بسبب الغربة والعزلة التامة فتصبح عالقة في عالم منغلق من الهلوسة والهذيان والتهيؤات والغياب التام عن العالم الخارجي. أما في أرواح كليمنجارو، والكلام هنا عن العزلة أيضا، إلا انها عزلة إيجابية تفتح أبواب المكان وتشرع الفضاء أمام الروح لتنطلق في مسيرتها متحررة من كل الأفكار والأحكام المسبقة ومنفتحة للتماس والتعارف مع الطبيعة والبشر والأحلام. أرواح كليمنجارو: سيرة المغامرة والشجاعة تقول هيلين كيللر: «رغم أن العالم مليء بالمعاناة إلا إنه ممتلئ أيضًا بمن يهزمونها». رواية أرواح كليمنجارو ليست سيرة عن مغامرة شجاعة للصعود الى أعلى قمة في أفريقيا فقط، كما إنها ليست رواية عن الإرادة والرغبة العارمة في إثبات الذات وتحقيق التميز، إنما هي أيضا رواية عن الإنسان عندما ينعزل ويتواجه مع ذاته ويعيد اكتشافها من جديد أمام كل صعوبة أو تحدٍ يواجهه. ماذا تريد من الجبل؟ وما الذي يريده الجبل منك؟ وهل الوصول الى قمته هو هدفك أم أن ما تمنحه لك هذه الرحلة من فرصة نادرة للوقوف على حقائق وخبايا من نفسك لم تكن لتصل اليها أو تعترف بوجودها لولا انقطاعك في هذا المكان من العالم؟ كم منح لك هؤلاء الصغار عندما رافقتهم في رحلتهم؟ تخرج معهم دعمًا لهدف انساني نبيل لتكتشف كم أنهم هم الذين قدموا لك الدعم وحققوا لك هدف أسمى ببلوغ قمة لم تكن تنشدها أو ربما لم تكن تدرك انك تنشدها حين قررت الصعود معهم. وكم يبدو الأمر مختلفًا عندما تصعد وتصل الى القمة لتكتشف أن الجبل قد عانقك مرارًا وهنأك أكثر من مرة كلما تجاوزت قمة أهم وأعلى من تلك المتعالية فوق سحاب وثلوج كليمنجارو. ولكن لماذا كليمنجارو؟ يقع جبل كليمنجارو في الأراضي التنزانية أول بلد أفريقي يتحرر من الاستعمار وينال استقلاله. ويعتبر سقف القارة الأفريقية إذ يقع على ارتفاع أكثر من تسعة عشر ألف قدم فوق سطح البحر. وهو الذي ترى اليه الشعوب الأفريقية كرمز للحرية والكرامة، اذ قال أحد قادة حركة التحرر التنزانية ذات يوم: «سنوقد شمعة على قمة الجبل لتضيء خارج حدودنا لتعطي الشعوب الأمل في وضع يسوده اليأس، الحب في وضع تسوده الكراهية، والإحساس بالكرامة في وضع يسود فيه الإذلال». ومن هذه المقولة استلهم الصاعدون الى كليمنجارو أملهم بالوصول الى قمته دعمًا لأطفال فلسطين وحقهم في الحرية: «كل خطوة سيخطوها هؤلاء الفتية نحو القمة سيخطوها أطفال فلسطين نحو حريتهم، خارجين من واقع اليأس الى شمس الحرية والأمل». تركز الرواية على قسوة الواقع الفلسطيني في الداخل والخارج وتؤكد على حق الفلسطينين في الحياة الكريمة على أرضهم. إلا انها تمضي الى ما هو أبعد وأكثر أهمية ألا وهو ما تحييه هذه التجربة من أمل وتفاؤل بالمستقبل ليس في نفوس أطفال فلسطين فقط وإنما الفلسطينيون جميعهم. ومن هنا قد تأتي أهمية أن تضاف هذه الرواية الى الملهاة بصفتها تنعش الأمل والإيمان بالمستقبل وتؤكد أن الجرائم الصهيونية بفاشيتها لن توقف المقاومة والعمل من أجل الحرية. يقودنا إبراهيم نصرالله في رحلة إنسانية عميقة يتسامى فيها الصاعدون كلما أمعنوا في الارتفاع باتجاه القمة. وتتبلور حبكتها حول فكرة الحرية كحق إنساني أصيل لجميع البشر. ففي ظاهرها هي قصة صعود أول أطفال عرب وفلسطينيين بأطراف صناعية الى قمة كليمنجارو وكيف نجحوا بصمودهم واصرارهم وتضامن من معهم في الوصول الى القمة. ولكنها تنطوي على أبعاد أخرى تتراوح بين الواقعي فيما يتناول الحق الفلسطيني كقضية حاضرة وعادلة وكواقع إنساني معاش داخل وخارج الأراضي الفلسطينية. وبعد آخر روحاني وفلسفي فيما يتناول النفس البشرية وتأثرها بالعزلة والطبيعة المتنوعة للجبل وما يترتب على ذلك من انكشاف على الذات ودواخلها العميقة. لغة الرواية سلسة وبسيطة نضدت مفرداتها بدقة صائغ الألماس فجاءت شفافة ومصقولة تبهر القارئ وتستحوذ على انتباهه حتى في حالات الصمت والتأمل. «كما لو أن الشمس أشرقت فجأة، أحست ريما بكرة من لهب تتدحرج داخل ثيابها، كرة هائلة خرجت من رأسها وصهرتها بلهيبها». «شارع ميت أشبه ما يكون بنهر عظيم جف» / «تلك الليلة كانت مقدمة لكوابيس لا يستطيع الجحيم نفسه أن يخترعها» / «في قلب غيمة لا حدود لها كانو يسيرون» / «عينيها المتعبتين كانتا مكسورتين بهزيمة على وشك الوقوع».
مشاركة :