قراءة في رواية إبراهيم نصرالله «أرواح كليمنجارو» التحليق مشيًا (2)

  • 7/1/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

فضاء المكان: كليمنجارو كان الفضاء والمركز الذي اجتمع فيه أبطال الرواية قادمين من بلدان العالم المختلفة حاملين معهم ذكرياتهم وتجاربهم وأحلامهم موحدين في هدف دعم أطفال فلسطين. فمن غزة جاء يوسف حالمًا بالحصول على صديق جديد، بينما جاءت نورة من نابلس بحثا عن رجلها التي كبرت وهي تسمع بأنها مخبأة أعلى الجبل، وجاء غسان من الخليل حيث يرزح وعائلته تحت وطأة القلق المقيم على بيتهم الذي يطمع فيه المستوطنون الإسرائيليون، أما جيسيكا فقد تركت نيويورك بحثًا عن الحب والمغامرة وسهام قدمت من مصر حاملة سرها وحلمها، وهنري الصياد الذي ترك قلبه في باريس وإميل من لبنان وسوسن التي جاءت من الأردن بمجرد سماعها عن الرحلة، وكأن قضية هؤلاء الأطفال تطوف الكون لتؤلف تضامنا دوليا لمناصرتها. «تأمل كيف يجتمع هؤلاء كلهم ليوصلوا أولئك الفتيان إلى القمة». رواية الحركة والبعد الكوني: تضج الرواية بالحركة الدائبة والنشطة فالأبطال في حالة صعود وهبوط فعلي للجبل، كما انهم في حالة صعود وهبوط معنوي ونفسي وروحاني بالاضافة الى حركة السرد المتنقلة بين المدن المختلفة وبين الماضي والحاضر وبين الخيال والواقع. وبعكس التوقعات بأن تكون هذه الرواية من أدب الرحلات التي تصف المكان والجغرافيا والاحداث، رسم إبراهيم نصرالله سردا بارعا في لوحة متقنة متعددة الطبقات والرموز، مزج فيها بين التجربة الواقعية والخيال والفنتازيا. يقودنا السرد في رحلة التعرف على المشاركين الذين جاءوا لصعود الجبل من خلفيات وتوقعات وأهداف مختلفة. ومع سير الأحداث تنكشف مكنونات كل فرد منهم طبقة بعد طبقة، فنعيش معهم هزائمهم وانتصاراتهم وما يعتريهم من تحولات جراء الوجود في حيز واحد مع بعضهم بعضا وجراء الالتماس الحميم مع الجبل وطبيعته المتغيرة. الجبل الذي عرف بمناخاته الصعبة الذي تتطلب تدريب وقوة للتمكن من التعامل مع طبيعته والصمود أمام تقلباتها المتوقعة وغير المتوقعة في معظم الأحيان. ونتلمس كيف ساهمت العزلة في تذويب الفوارق وكسر الحواجز فيما بينهم لتنمو بينهم علاقات انسانية وصداقات جميلة أساسها الاحترام والمحبة، مترفعين عن أي اختلافات من شأنها ان تعطل مسيرتهم، ومتوحدين تجاه هدفهم ألا وهو إيصال الأطفال الفلسطينيين إلى قمة جبل كليمنجارو. لم يكتفِ نصر الله بمزج أحداث الرحلة الفعلية ووقائعها ضمن سرد روايته بل تجاوزها بسبر عميق وعين متبصرة للتغيرات التي تحدثها التجربة في نفوس أبطاله وفي نظرتهم إلى الحياة والعالم من حولهم. مضفيا إليهم سمات وأفكارا وأحداثا ربما لم تحدث فعلا ولكنها جاءت مستلهمة من واقع التجربة وثراء الخيال، حاملا القراء معه الى قمم مختلفة تجاوزها أبطال روايته في أثناء وبعد وصولهم الى هدفهم الكبير -قمة كليمنجارو-. «اكتشف أن هذه هي المرة الأولى التي يغسل فيها قدم إنسان، أي إنسان.. إنه يغسل قدم مسيح صغير مسيح عذب كثيرا وها هو يصعد درب الجلجلة غير آبه بجراحه وآلامه، غير آبه بساقه المبتورة، وأصابع يده التي تبخرت في الهواء». ورغم البعد الكوني الذي عكسته الرواية من خلال انتماء شخصياتها الى بلدان وأديان ولغات وأعراق مختلفة، التزم ابراهيم نصرالله بقضيته وحرص على إبرازها بقوة وواقعية، مستقيا من قصص المعاناة اليومية للفلسطينيين في الخليل وغزة والمدن الفلسطينية وقائع وأحداثا تحكي قساوة الواقع الفلسطيني في بلدان الشتات والغربة وتفضح الانتهاكات الإسرائيلية وتكشف المواجهات اليومية للفلسطينيين مع جنود الاحتلال على الحواجز وقرب المستوطنات الإسرائيلية. ورغم انها مرتكزة على قسوة الواقع الفلسطيني في الداخل والخارج، إلا أنها تمضي الى ما هو أبعد وأكثر أهمية ألا وهو ما تحييه هذه التجربة من أمل وتفاؤل بالمستقبل، ليس في نفوس أطفال فلسطين فقط وإنما الفلسطينيين جميعهم. ومن هنا قد تأتي أهمية أن تضاف هذه الرواية الى الملهاة بصفتها تنعش الأمل والإيمان بالمستقبل، وتؤكد أن الجرائم الصهيونية بفاشيتها لن توقف المقاومة والعمل من أجل الحرية. تميزت طريقة السرد بتنوع تقنيات الكتابة بين ومضات تتفاوت بين الماضي والحاضر، مثل التذكر والاستعادة (flash back) «لقد استيقظ حيا، ولكن ذلك لم يكن كافيا ليجعله يحس بأن ضررًا كبيرًا لم يلحق به»، المقاربة والمقارنة (تل بورين /‏ جبل كليمنجارو) «تصور! ريما استطاعت أن تصعد أعلى جبال العالم، لكنها لا تستطيع صعود تل كهذا». (سطح البيت /‏ قمة الجبل) «لذلك لا أحلم بشيء منذ مدة طويلة مثلما أحلم بالصعود إلى ذلك السطح». والرمزية، «كانت أكثر رعاية لابتسامتها من أي نمرة لصغارها في السهول» /‏ «وسط تلك الحالة من الارتباك والتفكير في المسافة التي يحتاجونها لبلوغ المخيم قبل هبوط الليل لمحت نورة ذلك الطائر الذي تعرفه جيدا». كما اتخذ الكاتب أسلوب تكرار بعض الجمل والعبارات، ربما تأكيدا على أفكار وتأملات ألهمته في أثناء رحلته الفعلية لصعود الجبل، من بينها العبارة الأكثر بروزا في الرواية: «في كل إنسان قمة عليه أن يصعدها وإلا بقي في القاع.. مهما بلغ من قمم»، و«أنت لا تستطيع أن تقول انك ترى ما تراه حقا إلا إذا لمسته». كما تضافر الفنان والفوتوغرافي والسينمائي مع الروائي في شخصية الكاتب لحشد الرواية بالصور الجميلة الدقيقة لتبدو وكأنها لقطات سينمائية حية، «وقبل أن يضع ذلك الشخص الكاميرا قرب وجهه، كانت صخرة ضخمة قد بزغت كوحش من البياض واقتلعت رأسه... وظلت الصخرة تتدحرج نحو الوادي كلما ارتطمت بشيء انطلقت صرخة.» /‏ «أحست ساقها تسقط مثل ورقة صفراء في الخريف وهبت ريح فرأت ساقها تحلق مبتعدة وكذلك ساق يوسف. وما هي إلا لحظات حتى رأت السماء ممتلئة بالسيقان الاصطناعية التي تجرفها الرياح بعيدا». رسمت معظم الشخصيات بشكل مقنع ومحكم، ومع أن بعضها موجودة في الواقع إلا أنها أخذت الكثير من السمات المتخيلة لخدمة حبكة ونسيج الرواية. واشتغل نصرالله على تمثيل التباينات والأنماط المختلفة للنفس البشرية فهناك الصبر والعزيمة متمثلان في الطفلين الفلسطينيين بطلي الرحلة الرئيسين وقلبهما النابض بالأمل المتجدد والتاجر الانتهازي والحكمة والروحانية العالية في شخصية صول، ريما العقل والتدبير والدكتورة أروى الطبيبة الماهرة والإنسانة الشفافة، وسوسن المرأة الجميلة والمعطاءة وغسان تلك الروح الطافحة بالقلق والأمل والصمود. هذه الشخصيات التي تماهت بين الحقيقة والخيال وانصهرت جميعها لتشكل جسدا واحدا يتحرك باتجاه الأعلى نحو القمة. وبين كل مرحلة ووقفة ترك الكاتب الأفق مفتوحًا أمام أبطاله ليعيش كل فرد منهم رحلته الخاصة ويرحل الى داخله فيتعرف إلى مناطق لم يصل إليها من قبل. «كل واحد منهم مضى بعيدا في رحلته الخاصة به»، بعضهم اهتدى الى قمته وبعضهم ربما مازال مستمرا في رحلته على أمل أن ترشده علامة من القدر أو نكزة من الجبل، ففي الأول والآخر «لا يريد الجبل منا سوى أجمل ما نريده لأنفسنا». يبقى السؤال، أين ابراهيم نصرالله في أحداث الرواية؟ ومن هو في شخصياتها؟ هل اكتفى بدور الراوي العليم أم انه تماهى مع شخصية الكاتب هنري؟ وما هي علاقته بقصة هيمنجواي «ثلوج كليمنجارو».

مشاركة :