«الفانوس السحري» لإنغمار برغمان: المبدع يروي حكاية منفاه ومطاردة الضرائب له

  • 6/24/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

صحيح أن المخرج السينمائي السويدي الكبير كان في العام 1971 قد حقق فيلماً يمكن وصفه بأنه نصف سويدي/نصف إنكليزي، لكنه أبداً قبل أواسط سنوات السبعين - من القرن العشرين - لم يبتعد بسينماه عن موطنه السويد. فإنغمار برغمان منذ بداياته السينمائية في سنوات الأربعين، ثم لاحقاً حتى رحيله بعد إطلالة القرن الجديد، لم يبتعد لا عن الجغرافيا السويدية ولا عن المواضيع السويدية. كان دائماً سويدياً حتى النخاع، بل لعله من بين المبدعين الكبار في تاريخ الفن السابع، كان الأكثر تعلقاً بذهنية بلاده وأخلاقيات أهلها وتاريخها وحاضرها الروحيين. ومع ذلك، ثمة لتلك القاعدة التي حكمت حياته ومساره المهني، استثناءان كبيران هما عبارة عن فيلمين حققهما بين العامين 1976 و1979 في ألمانيا وليس في السويد. والحقيقة أنه إذا كان برغمان قد حافظ في الفيلمين على قوته التعبيرية وإدارته المدهشة للممثلين وسطوة لغته السينمائية واختياره المواضيع القوية، فإنه كان في الحقيقة أميناً مع نفسه ومع «سويديّته» الى درجة يمكن معها، وبكل وضوح، تلمّس «كونيّة» الفيلمين وموضوعيهما وكونهما يخرجان تماماً عن الدروب السائدة في سينماه ككل. وهذان الفيلمان هما بالطبع «بيضة الثعبان» (1977) و «سوناتا الخريف» (1978). وهو حققهما عن سيناريوهين كتبهما بنفسه وغالباً مع فريق عمله المعتاد بما في ذلك الممثلون والممثلات الذين استقدمهم من السويد الى حيث يقيم ويصوّر. > والحقيقة أن برغمان كان في ذلك الحين يعيش في المنفى، مطارَداً من السلطات الضريبية في بلده، ومن التهديد بالسجن في ذلك البلد. هذا الأمر قد يبدو غير قابل للتصديق اليوم. ففي تلك السنوات كان هذا المبدع الكبير قد وصل الى أعلى ذرى سمعته العالمية ولا سيما بعد سلسلة أفلام رائعة حققها ولفّت العالم كله، مثل «صراخ وهمسات» و «مشاهد من الحياة الزوجية» - في نسختيه التلفزيونية والسينمائية الرائعتين سواء بسواء -، ثم أفلمته الاستثنائية لأوبرا موزارت «الناي السحري». وهو كان حقق تلك الأعمال خلال النصف الأول من سنوات السبعين التي شهدت وقوفه على قمة السينما العالمية ومرافقة بلده السويد له على تلك القمة. > ومع ذلك، توجه برغمان في ذلك الحين الى المنفى هارباً. وهو يروي لنا على أي حال تلك الحكاية البائسة من حكايات مساره المهني والحياتي بنفسه في كتابه البديع «الفانوس السحري» الذي يشكل نوعاً من سيرة ذاتية له وواحداً من الكتب العديدة التي أصدرها خلال السنوات الأخيرة من حياته هو الذي كان كاتباً مبدعاً بقدر ما كان سينمائياً كبيراً ومسرحياً راسخاً. ولئن كنا سنعود بعد سطور الى ما يرويه برغمان عن مطاردته ومنفاه ناقلين عن «الفانوس السحري»، لا بد أن نشير هنا الى أنه نادراً ما حدث في تاريخ السينما أن توصل مبدع الى أن يحقق خارج «دياره الطبيعية» أعمالاً لها قوة ما حققه برغمان في الفيلمين اللذين أشرنا إليهما. ولكن أيضاً، ندر أن بدا مبدع سينمائي بعيداً عن السياق المعتاد لإبداعه إذ اضطر الى تحقيق أفلام له في المنفى. والحقيقة إن دلّ هذا على شيء فإنه يدل على ارتباط التعبير لدى صاحب «برسونا» و «الفريز البري» و «الختم السابع» بالأرض والمزاج اللذين يشتغل فيهما وانطلاقاً منهما. > أما بالنسبة الى ما يرويه برغمان لنا عن حكاية المطاردة والمنفى ثم التوصل الى تسويات قد تبدو مهينة في نهاية الأمر حتى وإن حكمنا من خلال رواية صاحب العلاقة نفسه، أنه كان هو المنتصر فيها على الجمود البيرقراطي. ففي يوم الجمعة الثلاثين من كانون الثاني (يناير) 1976، وكما يروي برغمان في «الفانوس السحري» بكل هدوء، وصل إلى مبنى المسرح الذي يدرب فيه برغمان فريقه على مسرحية «رقصة الموت» لسترندبرغ، شرطيان يرتديان الثياب المدنية. هذان الشرطيان كانا مكلفين بمهمة محددة، لذلك لم يهتما حتى بمعرفة اسم المسرحية التي تُجرى عليها التجارب داخل «المسرح الملكي الدرامي». وربما لم يكونا عارفين تماماً بالمكانة الحقيقية التي يشغلها، محلياً وعالمياً، الشخص الذي كلفا بالتوجه إلى المكان لإحضاره. كان كل ما يعرفانه هو أن ثمة هنا شخصاً يدعى انغمار برغمان وأن هذا الشخص مطلوب للعدالة، وعليهما أن ينفذا الأوامر لا أكثر. عند باب المسرح مُنع الشرطيان من الدخول الى غرفة المخرج بقوة، فاكتفيا بأن ينتظرا برغمان في غرفة مدير المسرح، وحين وصل برغمان إلى الغرفة وجد نفسه يواجه أحد الشرطيين، بينما وقف الثاني حارساً عند الباب، وكله خشية من أن يحاول المطلوب الهرب. > حدث هذا في السويد، وليس في بلد أقل حضارة، وانتهى المشهد يومها بالقبض على برغمان واقتياده إلى مكتب محلي لعملاء الضرائب، حيث بدأ التحقيق معه بتهمة التهرب من الضرائب. والتهرب موضوع التحقيق كان قد حدث قبل ذلك بخمسة أعوام. والحال أن التحقيق في ذلك اليوم أتى ليشكل نقطة انعطافية في مسار العلاقة بين انغمار برغمان ومصلحة الضرائب في السويد، وهي علاقة معقدة وصدامية كانت قد تشعبت وتوترت خلال العقد الأخير، أي بالتواكب مع السمعة العالمية التي بدأ انغمار برغمان، المخرج السينمائي والمسرحي السويدي الشهير يحوزها، عبر إقبال الجمهور العريض بخاصة النقاد، على أفلامه في كافة أنحاء العالم. ولقد كان أغرب ما في تلك القضية، أنها تحدث في السويد وتجابه الفنان الوحيد الذي انطلق اسمه من ذلك البلد ليتجول في كافة أنحاء العالم وليعتبر صاحبه واحداً من أساطين فن السينما في العالم. > من المعروف، طبعاً، أن الحرب بين كبار الفنانين والنجوم وبين مصالح الضرائب في بلدان مثل الولايات المتحدة الأميركية والهند ومصر وفرنسا، حرب سجال تملأ أخبارها أعمدة الصحف، وأدت في أحيان كثيرة إلى مبارحة الفنانين لبلدانهم، وفي بعض الأحيان إلى إفلاسهم ومرات إلى وضعهم في السجن. ولكن كانت تلك هي المرة الأولى التي تطاول فيها تلك الحرب فناناً طليعياً كبيراً من طراز برغمان، والمرة الأولى التي يختلط بها الأمر باسم بلد راق ومسالم من طراز السويد. ومن هنا وقف العالم كله مذهولاً وهو يتتبع أنباء المعر وبالتالي لم يفاجأ أحد حين قرر انغمار برغمان وقد قرف من الأمر كله، نفي نفسه خارج السويد، محدثاً بنفيه صدمة نفسية للشعب السويدي كله. > هذا النفي بدأ يوم 22 نيسان (ابريل) من العام 1976، أي بعد أسابيع من الحملة التي شنها رجلا الشرطة على قاعة المسرح حيث كان برغمان يجري التجارب على مسرحية «رقصة الموت». وكان من الواضح ان برغمان، برحيله، أراد تفادي سنتي السجن اللتين هُدد بهما إن هو لم يوافق على تسوية أموره مع مصلحة الضرائب بدفع مبلغ ضخم جداً من المال. ولقد اختار برغمان ان يجعل نفيه علنياً ومربكاً للسلطات السويدية، حيث نشر، في نفس اليوم الذي بارح فيه وطنه، مقالاً في صحيفة «اكسبرسن» - وهي أوسع الصحف السويدية انتشاراً - عنوانه «انني اترك السويد»، وهو في ذلك المقال هاجم مضطهديه من رجال الضرائب وأكد رفضه لأية تسوية معهم. > وفي الوقت الذي كانت فيه الصحيفة تنشر المقال، كان برغمان وزوجته يستقلان الطائرة إلى باريس، ومنها إلى لوس انجليس، حيث عقد برغمان مؤتمراً صحافياً قال فيه: «خلال الأشهر الثلاثة التي مرت، وجدت نفسي أعيش وضعاً كافكاوياً - نسبة إلى ما يحدث من مواقف عبثية للشخصيات الرئيسية في روايات كافكا - لقد شعرت بأنني بتّ في طريقي لفقدان هويتي. إن الأمر رهيب، ولكن ليس في وسعي أن أعتبر وطني مسؤولاً عن بعض الترهات التي يقترفها عدد من الموظفين. لقد أصبت بانهيار عميق، كان أول انهيار حقيقي أصاب به في حياتي، انهيار حال بيني وبين مواصلة عملي الفني». > أمضى برغمان في المنفى أكثر من عامين تنقل خلالهما بين الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، وحقق ما تحدثنا عنه أعلاه، ثم عاد أخيراً إلى السويد بعد أن تمت تسوية مشاكله مع مصلحة الضرائب. وكان الأمر كله، في نظر الكثيرين، وصمة عار في تاريخ بلد، لم يعرف عنه على أي حال أنه يحب أن يوصم بالعار، لا سيما في علاقته بالفنانين.

مشاركة :