النسخة: الورقية - دولي ...أما القاعدة فهي المتعلقة بطغيان الاستقطاب السياسي بين 8 و14 آذار، وهو المتضمِن بالطبع استقطاباً مذهبياً لا يمحوه وجود كتل مسيحية في كلا التيارين، ووجود أفراد أو مجموعات صغيرة مخالفة للرأي الطاغي في «مذهبها» في كليهما أيضاً، ولا تقلبات وليد جنبلاط المستمرة. سبق أن برز اختراق للطــــوائف وتجــــاوز للثـــنائية الســـياسية الســـائدة عند تحرك مياومي مصلحة الكهرباء العام الفائت، ثم أمكن استعادته واستيعابه من قبل «النظام كما هو قائم اليوم»، بســـبب محدودية القطاع الذي جرى فيه رغم عناد أصحابه، وبسبب خاصية حقيقية هي طغيان انتماء لون مذهبي معين على الغالبية الساحقة من هؤلاء المياومين. لكنه كاد أن يتسبب بتـــنافر قاسٍ داخل 8 آذار، حيث كان وزير الطاقة هو جبران باسيل (العوني). ومع انكشاف هـــشاشة التحالف السياسي ذاك، المستند فحسب إلى حـــسابات مصلحية بدائية (ربما أكثر مما يميز تحالف 14 آذار الأكثر «انســـجاماً»)، ظهر في شكل فاقع الانحياز الطبقي (الطبيعي) لكل قادة الأطراف السياسية الرسمية في لبنان، المعادي لذلك التحرك، والمرتاب غريزياً بأي مطلب للفئات الفقيرة، والحريص على استمرار نظام يقوم على المحسوبيات، ورديفها النهب. وللمفارقة، كانت تلك المواجهة مناسبة للتقدم خطوة اضافية في مسار الخصخصة التي يدافع عنها كل أركان النظام، ساعين إلى قبر الانجازات القليلة في البلاد، العائدة خصوصاً الى الحقبة الشهابية الخاطفة التي تقارب الدولة كحارس للمصلحة العامة معنية بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين المتساوين. الصراع اليوم مع هيئة التنسيق النقابية على سلسلة الرتب والرواتب أكثر أهمية وتعقيداً من ذلك المثال، الذي اظهر، على رغم كل شيء، أن في البلد الصغير ما لا ينتمي إلى الانقسامين السياسي والمذهبي ويمكنه ان يتخطاه. تنخرط في المعركة الدائرة قطاعات واسعة تقع في قلبها روابط الأساتذة، وتمتلك قيادة نقابية متمرسة، وخططاً تقرها جمعيات عمومية مضت على تقليد تشكلها ونقاشاتها أشهر طويلة، فيما وفر باحثون اقتصاديون دراسات جادة لمقارعة رفض السلطات إقرار السلسلة وللرد على محاولات المساومة عليها بالمقدار الذي يشوهها، والتي تجري بحجج أولاها أن هذه المطالب «عشوائية وشعبوية»، مع أنه مر الوقت الكافي من التفاوض الجاد حولها الذي يسقط التهمتين. وحين يظهر تهافت ذلك الاتهام، يجري سعي حثيث لتنصيب ظلال التلاعب- التوظيف السياسوي خلف كل ما يجري، إذ تبدو القيادات السياسية الرسمية اللبنانية واثقة تماماً من أنه لا يوجد على هذه الأرض إلا ما تعرفه هي وتألفه وتتقن ممارسته. لكن ما هو أخطر من المهاترات، وأكثر «إيذاء» ودلالة، هو ادعاء أن السلسلة، لو أُقرت، ستؤدي الى تدمير مالية واقتصاد لبنان ودفعه إلى مصاف الدول الفاشلة عبر خفض التصنيف الائتماني للبلد الخ... وفي هذا الخطاب انحياز شديد للدفاع عن النظام كما هو قائم، على رغم جملة العوامل (ليست كلها اقتصادية ولا موضوعية، بل بعضها سياسي وأمني وظرفي الخ) التي أدت به إلى أزمة من النوع الذي يبدو معه على شفير الانهيار الفعلي، والتي تجعل الدَّيْن العام مثلاً يرتفع من دون السلسلة وقبل إقرارها بنسب عالية تجاوزت 102 في المئة عام 2013، ما خفض أصلاً التصنيف الائتماني للدولة بنحو 5 في المئة... وهو ما يثبت أن المنهاج الذي تسير عليه أحوال البلد غير قابل للاستمرار أصلاً، وذلك من دون أي طموح ثوري، وبغض النظر عن تلك المطالب الاجتماعية التي لا يجرؤ ارباب النظام أنفسهم على نعتها بغير أنها محقة، ثم يردفون ذلك دائماً بـ «ولكن»، وهو استدراك يتبيّن منه دائماً أنهم «يفضّلون» أن يكون ذوو الدخل المحدود هم مَنْ يتحمل الأعباء، ربما لأنهم تعودوا على الصبر إضافة لاستغنائهم عن كل ترف! وهذا سيناريو عاد فجرى تطبيق إحدى صيغه في الجولة الأخيرة التي لم تنتهِ فصولاً بعد، حيث ماطلت السلطات حتى عشية الامتحانات العامة، مراهنة على المأزق الذي يمثله تعطيلها، وعلى إمكانية اتهام هيئة التنسيق النقابية بأنها تتلاعب بمصير التلامذة و «تتخذهم رهائن»، وعلى ضرب التحرك بقلق الأهالي وضغوطهم... علاوة على محاولات شق الصفوف باستدعاء المتعاقدين (الذي فشل، ناهيك بلا قانونيته)، وادعاء وجود «خطط كبرى» تلاشت بلا أثر. هل هناك حل أو حلول بينما إقرار السلسلة يكلف 2700 بليون ليرة على الاقل؟ الكاتب الصحافي الاقتصادي عدنان الحاج يشدد على ضرورة التدرج والتقسيط في إقرار السلسلة منعاً للآثار التضخمية على العملة الوطنية، ويبرهن على أنها يمكن أن تموَّل بوقف الهدر لا بزيادة الضرائب. وبالفعل، هناك اتفاق عام على وجود ضعف كبير في إيرادات الدولة، وعلى أن لبنان ليس بلداً مزدهراً (لم يعد منذ زمن)، ولا بلداً ريعياً. لكن الهدر في ضبط السلطة لموازنتها أكبر من ذلك الضعف، ومعه سوء الإدارة والفساد والنهب مما تمارسه القوى الاجتماعية المتنفذة وقوى الأمر الواقع المستجدة. وهناك خيارات منحازة وعوجاء تُبدّي القلة القليلة على حساب السواد الأعظم. ومن هذه الأبواب والحلول، «لغز» انخفاض الواردات الجمركية للدولة فيما يرتفع حجم الاستيراد. فقد انخفضت الأولى عام 2013 بما يقدر بـ700 مليون دولار عما كانت عليه عام 2008، وبينما كان لبنان يستورد ما قيمته 14 بليون دولار في حينه كانت العائدات 2.6 بليون دولار، وهو يســــتورد اليوم بنحو 21 بليون دولار بينما تبلغ العائدات الجمركية 2.2 بليون دولار: فتش عن الغش في شهادات المنشأ التي جعلت البضائع المستوردة أوروبية بقدرة قادر (بينما هي صينية وآسيوية أو تركية)، والأولى تستفيد من تخفيضات وإعفاءات بحسب مبدأ المعاملة بالمثل. وهناك الهدر علاوة على النهب، كما في مثال إدارة ملف الكهرباء (المخزي) الذي يبلغ العجز فيه 3900 بليون ليرة (62 في المئة من عجز الموازنة العامة، وهناك 450 مليون دولار تدفع للمولدات وفي التعليق على الخطوط العامة)، كما في ملف ادارة عقارات الدولة (السائبة)، بينما هي تستأجر عقارات ببدلات باهظة تنفيعاً لهذا وذاك.
مشاركة :