بعد عام انتخابي حافل بالأحداث والمفاجآت، يبدو المشهد السياسي في فرنسا مختلفا تماما عما هو معتاد، ومختلفا بشكل خاص عما كان عليه قبل بروز إيمانويل ماكرون. وآخر حلقات مسلسل التحولات التي طرأت على هذا المشهد مغادرة رئيس الوزراء السابق مانويل فالس "الحزب الاشتراكي". أعلن رئيس الوزراء الفرنسي السابق مانويل فالس الثلاثاء أنه سيغادر "الحزب الاشتراكي"، قائلا إن جزءا من حياته السياسية ينتهي. ويأتي هذا الإعلان ليشكل حلقة جديدة في مسلسل التحولات الواسعة التي طرأت على المشهد السياسي الفرنسي منذ عام، وتضاف إلى مغادرة رئيس الوزراء الأسبق جان بيير رافران (2002 / 2005) الحياة السياسية في سياق وصول إيمانويل ماكرون لرئاسة البلاد وتعيين إدوار فيليب رئيسا للوزراء. وقد تبدو هذه التغييرات طبيعية للوهلة الأولى، إذ أن البلاد خارجة من عام انتخابي أسفر عن نتائج مختلفة جذريا لما كان متوقعا، وسبقته اعتداءات إرهابية متعددة. ويبدو المشهد الجديد مختلفا تماما عما هو معتاد في الحياة السياسية الفرنسية. رئيس الوزراء الفرنسي السابق مانويل فالس ومانويل فالس ليس أول رئيس وزراء سابق يغادر حزبه بعد خروجه من الحكم، فدومينيك دو فيلبان (الذي تولى رئاسة الحكومة بين 2004 و2005 في نهاية رئاسة جاك شيراك) غادر حزبه ("الاتحاد من أجل حركة شعبية"، الذي تغير اسمه عام 2015 إلى "الجمهوريون") وأسس "الجمهورية المتضامنة" في 2010، أي بعد مغادرته الحكومة بخمس سنوات. غياب الوجوه السياسية الكبيرة وبينما قال فالس مؤخرا إن "الحزب الاشتراكي قد انتهى"، كان خلال حملة الانتخابية التمهيدية للاستحقاق الرئاسي يدعو اليسار للالتفاف حول حزبه وحول شخصه هو بالذات. ثم عاد بعد هزيمته في هذه الانتخابات للامتناع عن دعم المرشح الاشتراكي المنتخب بونوا هامون، ويعلن دعمه لوزير اقتصاده السابق إيمانويل ماكرون. الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي© أ ف ب وكانت مقدمات هذه التحولات في المشهد السياسي قد بدأت منذ الانتخابات التمهيدية للحزبين التقليديين. ففي معسكر اليمين حاول الرئيس السابق نيكولا ساركوزي (2007 / 2012) العودة إلى الساحة السياسية بترشحه للانتخابات التمهيدية لحزبه، إلا أنه تلقى هزيمة ساحقة وخرج من الدورة الأولى بعد أن حل ثالثا خلف فرانسوا فيون وآلان جوبيه. وفي المعسكر الاشتراكي أعلن فرانسوا هولاند (2012 / 2017) في سابقة تاريخية لرئيس فرنسي عدم خوضه السباق نحو الإليزيه. ورغم أن المراقبين رأوا آنذاك أن هذا الانسحاب يمهد الطريق أمام مانويل فالس للفوز بترشح حزبه للانتخابات، فاجأ زميله وزير التربية السابق بونوا هامون الجميع وأقصى فالس من السباق. وتأكد خروج الوجوه السياسية الكبيرة عن الساحة بعد الانتخابات الرئاسية عقب هزيمة فيون وهامون في الدورة الأولى، وابتعاد ساركوزي عن الحياة السياسية للتفرغ للدفاع عن نفسه في قضايا الفساد التي تلاحقه، واعتزال جان بيار رافران النشاط السياسي، والمسافة التي أخذها دومينيك دو فيلبان من العمل الحكومي بعد عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية ودعمه لحملة إيمانويل ماكرون منذ الدورة الأولى. وبعد أن دخل إلى الحكومة كوزير للعدل عقب دعمه لماكرون منذ الدورة الأولى للانتخابات، عاد زعيم التيار الوسطي في فرنسا فرانسوا بايرو للاستقالة بسبب تحقيقات تطاله وحزبه "الحركة الديمقراطية" حول وظائف وهمية. الحزبان التقليديان في أزمة غير مسبوقة وترافق غياب الشخصيات السياسية ذات الخبرة عن المشهد بأزمات واضحة في الحزبين التقليديين. "الحزب الاشتراكي" تلقى ضربات موجعة خلال الانتخابات الرئاسية تمثلت بشكل أساسي بامتناع كثيرين من كبار أعضاء الحزب، مثل فالس ورئيس الوزراء السابق ووزير الخارجية في حينه جان مارك إيرولت ووزير الدفاع السابق الذي أصبح بعد الانتخابات وزيرا للخارجية جان إيف لودريان، عن دعم مرشح الحزب بونوا هامون، الأمر الذي تبعه خروج تاريخي للمرشح الاشتراكي من الدورة الأولى للانتخابات بعد حصوله على 6,36% فقط من أصوات الناخبين. أما على اليمين فقد شكلت اتهامات الفساد التي وجهت لمرشح حزب "الجمهوريون" فرانسوا فيون، ورفضه الانسحاب من الانتخابات رغم تراجعه الشديد في استطلاعات الرأي ضربة قوية للحزب الذي قاد البلاد في معظم فترات الجمهورية الخامسة. ورغم الدعم الذي تلقاه من كبار أعضاء حزبه بمن فيهم منافسوه السابقون وممثلو التيار الأكثر اعتدالا مثل آلان جوبيه، فشل فيون في الوصول إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. الجمعية الوطنية الفرنسية© أ ف ب وأدت هذه الأزمات إلى ضربات قاسية تلقاها الحزبان في الانتخابات التشريعية التي جرت بعد الانتخابات الرئاسية بشهر واحد، إذ حصل "الجمهوريون" وحلفاؤهم على 135 مقعدا من أصل 577 في "الجمعية الوطنية" (الغرفة الأولى من غرف البرلمان الفرنسي إضافة لمجلس الشيوخ)، في حين لم يتمكن "الحزب الاشتراكي" من الفوز بأكثر من 43 مقعدا بعد أن كان يملك الأكثرية في البرلمان السابق. ويبقى الحضور الوحيد لهذين الحزبين متمثلا في بعض أعضائهما الذين اختار الرئيس ماكرون تعيينهم لشغل مناصب قيادية في حكومته، كما هو الحال بالنسبة لرئيس الوزراء إدوار فيليب العضو في حزب "الجمهوريون" ووزير الخارجية جان إيف لودريان. برلمان أحادي الطابع وحكومة متعددة المذاهب كما أسفرت الانتخابات التشريعية عن فوز كاسح لحركة الرئيس إيمانويل ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" وحلفائها الوسطيين وعلى رأسهم "الحركة الديمقراطية"، إذ حصلوا على 355 مقعدا، وهو أمر نادر في السياسة الفرنسية، ففي البرلمان السابق كان الاشتراكيون يملكون 280 مقعدا في "الجمعية الوطنية"، وفي الذي سبقه كان "التجمع من أجل حركة شعبية" يسيطر على 313 مقعدا. إلى ذلك، ترتدي الحكومة ثوبا مختلفا تماما، إذ إن أعضاءها ينتمون لاتجاهات سياسية مختلفة. ورغم سيطرة "الجمهورية إلى الأمام" على البرلمان، فإن أغلب المناصب الكبرى في الحكومة قد منحت لأشخاص من أحزاب أخرى، فإضافة لفيليب ولودريان تولت الاشتراكية فلورانس بارلي منصب وزارة الجيوش، والاشتراكي الآخر جيرار كولومب وزارة الداخلية. إلى جانب هؤلاء دخل الحكومة أشخاص من خارج الساحة السياسية أمثال مارلين شيبا كاتبة الدولة لشؤون المساواة بين الجنسين، ومنير محجوبي كاتب الدولة للشؤون الرقمية. بروز اليمين المتطرف زعيمة حزب "الجبهة الوطنية" مارين لوبان© أ ف ب اعتاد الفرنسيون على حزبين تقليديين، عندما يتولى أحدهما الحكومة يأخذ الآخر دور المعارضة، لكن الوضعية الجديدة التي يجد الحزبان التقليديان نفسيهما فيها تجعل من غير الواضح ما إذا كانا سيلعبان دور المعارضة أم سيلعبان دور حزبين مشاركين في الحكومة. لتجد أحزاب صغيرة، غالبا ما اعتبرت ثانوية في الحياة السياسية الفرنسية نفسها تضطلع بدور أساسي في المعارضة. وعلى رأس هذه الأحزاب حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف والذي حقق أفضل نتيجة في تاريخه بحصوله على ثمانية مقاعد في "الجمعية الوطنية" ووصلت زعيمته مارين لوبان إلى البرلمان لأول مرة في حياتها. ومقابل "الجبهة الوطنية" نجد حركة "فرنسا الأبية" التي يتزعمها الاشتراكي السابق جان لوك ميلنشون من أقصى اليسار الذي حصل مع حلفائه الشيوعيين على 27 مقعدا في "الجمعية الوطنية". وبما أن المعارضة موزعة على جانبي الطيف السياسي فإنه من غير الواضح الآلية التي ستعمل بها هذه المعارضة، خصوصا وأن وزنها في البرلمان محدود جدا. كل هذه العوامل تجعل المشهد السياسي الفرنسي غير مألوف، وفي الوقت الذي يتفاءل فيه الفرنسيون بتغيير حقيقي في حياتهم وانتعاش لاقتصاد بلادهم مع هذا المشهد الجديد، يبقى بينهم الكثير من المتخوفين بسبب صعوبة التنبؤ بما يمكن أن يفرزه ذات المشهد من تغييرات في البلاد. فؤاد حسن نشرت في : 27/06/2017
مشاركة :