يتداعى نظام بريطانيا القديم، ولعل أكثر مَن يشعرون بذلك، مثل الصحافة اليمينية، هم المدافعون عنه، فقد ذهبت صحيفة Sun قبل أيام إلى حد ترجّي قرائها رؤية شرور الاشتراكية، ومن الطبيعي أن تُصاب بالذعر عندما ينتهي المطاف بـ30% من قرائها الناخبين إلى اختيار حزب العمال برئاسة جيريمي كوربين، وتُعتبر خطوتها هذه مبررة لأن استطلاع YouGov الجديد يشير إلى أن 43% من الناس يعتقدون أن «حكومة اشتراكية حقيقية» ستجعل بريطانيا «مكانا أفضل للعيش»، مقابل 36% يقولون العكس، ويبدو أن مَن يمثلون المستقبل من البريطانيين الشبان، وخصوصاً ناخبي الطبقة العاملة، يميلون بقوة إلى حزب العمال الجديد برئاسة كوربين. بدأ الإجماع السياسي الذي بناه المحافظون في عهد مارغريت تاتشر (أو الليبرالية الجديدة، إذا رغبت في مصطلح منمّق) ينهار، ويسلك هذا الإجماع الدرب ذاته كما الإجماع الديمقراطي الاشتراكي الذي أسسه كليمنت أتلي عقب الحرب، والذي سقط في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وقدّم ذلك النموذج (الملكية العامة، وضرائب كبيرة على الأثرياء، واتحادات عمالية قوية) تحسّناً غير مسبوق في مستوى المعيشة والنمو الاقتصادي، لكن ارتفاع أسعار النفط وانهيار إطار بريتون وودز المالي الدولي ساهمَا في إنهاء تلك الحقبة. بدا موت ذلك الإجماع السياسي أكثر وضوحاً آنذاك، فقد انتشرت عوارضه البشعة في كل مكان، أما مَن أرادوا الحفاظ على تماسكه فبدوا عاجزين أمام مد التاريخ المتقدّم، فذكر جيمس كالاغان قبل أيام من نجاح تاتشر في الإطاحة به من رئاسة الحكومة: «نشهد أحياناً، ربما مرةً كل ثلاثين سنة، تبدلاً كبيراً في بحر السياسة، وفي تلك الفترة لا يهم ما تقوله أو تقوم به. نرى تبدلاً في ما يريده الشعب وما يوافق عليه». إن كان هنالك من حادث يعكس بوضوح انهيار عصرنا الليبرالي الجديد فلا شك أنه حريق برج غرينفيل. صحيح أن اليمين يندد بـ«تسييس» هذه الكارثة من صنع الإنسان، إلا أن تفادي الكلام عن سياسات هذه المأساة يبدو أشبه بمحاولة فهم المطر من دون التطرق إلى الطقس أو المرض من دون التحدث عن علم الأحياء. يحاول المحافظون بيأس تدعيم نظام صمّم أطول عملية تقشّف في الرواتب منذ حروب نابليون ترافقت مع تدهور الخدمات العامة، وتراجع المنشآت المخصصة، وسقوط نظام الصحة الوطني في «أزمة إنسانية»، وتفاقم الدين. يعجز هذا النظام حتى عن تأمين مساكن آمنة، ومريحة، وغير مكلفة للملايين من مواطنيه. كذلك لا يستطيع تلبية حاجات الأكثرية وطموحاتها. ونتيجة لذلك يقف اليمين أمام معضلة: إما يراهن بكل ما يملك ويلجأ إلى مبررات عقائدية لإخفاقاته ونظامه الذي يواجه رفضاً متنامياً، وإما يتراجع، وهذا ما فعله حزب العمال قبل 40 سنة، ففي عام 1977 أعلن كالاغان رسمياً رفضه الحركة الكينزية، موضحاً أن خيار «إنفاق المال للخروج من الركود ما عاد مطروحاً»، وأنه لم ينجح «إلا في ضخ جرعات أكبر فأكبر من التضخم في الاقتصاد». على نحو مماثل قد يختار المحافظون اليوم التخلي عن الاقتطاعات لمصلحة الاستثمار، لكن التراجع أمام العدو لم ينقذ حزب العمال آنذاك. اعتقد بعض النواب المحافظين أن رفض إجماع ما بعد الحرب مستحب إنما مستحيل، لكن نجاح «التاتشرية» الانتخابي بدّل رأيهم، وصاروا مستعدين للتغيير، ونشهد اليوم عملية مماثلة مع حزب العمال، وفي المقابل ظن نواب محافظون آخرون أن رفض الإجماع غير مستحب حتى لو كان ممكناً: وعُرف هؤلاء بـ»ويتس» (المبلولين) في بريطانيا، وازداد هؤلاء تهميشاً داخل حزبهم الخاص، لكن حزب العمال أُرغم بعد ذلك على القبول بالأسس الكامنة وراء النظام الاجتماعي الجديد، تماماً كما اضطر المحافظون سابقاً إلى الاستسلام أمام إجماع أتلي الجديد. ولكن يجب ألا يدفعنا كل هذا إلى الشعور بالرضا، فلم يصبح استلام حزب العمال السلطة، مع وصول جيريمي كوربين إلى رئاسة الوزراء، محتماً بعد، وعلاوة على ذلك تملك قيادة حزب العمال نظرية عن التغيير الاجتماعي خارج البرلمان. صحيح أن سن القوانين ضروري إلا أنهم لا يعتقدون أن من الممكن تغيير المجتمع بالاكتفاء بممارسة بعض السياسيين في السلطة نفوذهم، بل بالعكس يؤمنون بأهمية أن يشعر الناس في مجتمعاتهم وأماكن عملهم بأنهم قادرون جماعياً ومعنيون بسياسات بلدهم. ولكن لا شيء ينعكس سلباً على مصالح بريطانيا الراسخة أكثر من شعب مسيّس ومجيّش، صحيح أن النظام الاجتماعي يتأرجح إلا أنه قد يواصل تفككه تدريجياً لفترة طويلة، مؤدياً إلى عواقب مؤلمة، ومن الممكن تأسيس مجتمع جديد يرفض الظلم وعدم المساواة، ولكن من المستحيل تحقيق هذا الهدف إلا من خلال أكبر حركة شعبية قد يشهدها التاريخ البريطاني. * «أديتيا شاكرابورثي»
مشاركة :