عندما يختار الشاعر أن يكتب النثر تبقى كتابته محتفظة بسمة مميزة اكتسبها من عالم الشعر، عالم بناء القصيدة، فتحتفظ كتابته بالوحدة العضوية للمعنى، إلا أن تجليات هذه الوحدة لا تشبه زمن الرواية، ولا بناء شخصياتها، ولا معمار العالم الذي تقوم عليه (عبدالمنعم رمضان، أمجد ناصر، عباس بيضون، عبده وازن على سبيل المثل لا الحصر). تحتفظ كتابة الشاعر دائماً بمستوى آخر يخفي ويكشف في آن، يشف ويحجب، يقول ويصمت. كتابة تتأرجح دائماً على الحافة بين عالم الرواية والقصيدة، تماماً كما يتأرجح عالم علي عطا في روايته الأولى «على حافة الكوثر» (الدار المصرية - اللبنانية، 2017) بين عالمين: عالم مصحة الكوثر والعالم الواقع خارجها. فالراوي لم يتخذ من مصحة الكوثر «وطناً بديلاً» على رغم تأمله في الفكرة، ولم يتمكن من التواؤم مع العالم الواقع خارجها، فظل يعود بكامل إرادته إلى مصحة الكوثر مرات عدة ما بين 2012 و2015. وإذا كانت هذه التواريخ دالة على عميق الاضطراب السياسي والمجتمعي في مصر، إلا أنها تأتي في الرواية بوصفها لحظة ذروة الأزمة الشخصية التي يمر بها الراوي: حسين. لسبب ما قامت المقالات بمعظمها عن هذه الرواية بتصنيفها عملاً ينتمي إلى أدب الاعتراف. وفي هذا الوصف، افتراض قوي أن الكاتب يقدم تجربته وهو ما ينزع صفة التخييل عن العمل ويدفع القارئ إلى التعامل معه بوصفه تسجيلاً لحودث وقعت بالفعل. وهي طريقة في القراءة كان يتم اتباعها مع الكتابات النسائية لتتحول إلى مجرد رصد لتجارب ذاتية عاشتها الكاتبة. إنها قراءة تحيل العمل إلى منطقة اليوميات أو السيرة الذاتية الجزئية للمرض، ما يصرف النظر عن العلاقات المتشابكة بين الخاص والعام، وبين التدهور المجتمعي والنفسي وبين الذات والمجتمع وبين المصحة وما هو خارجها. قد يعود سبب اعتبار الرواية تسجيلاً لتجربة واقعية هو ظهور الواقع المعيش فيها بدرجة كبيرة من خلال أسماء الأدباء والأديبات، الأقوال المكتوبة على وسائل التواصل الاجتماعي وتحديداً الـ «فايسبوك»، وأحداث سياسية وإن كانت ذُكرت عرضاً في خلفية السرد. لكن كل هذا لا ينفي أن العمل هو رواية تستدعي التأمل في العناصر التي وظفها الكاتب للتعامل مع عالمين وجعل الراوي يقف على الحافة بينهما. وبما أنه لا توجد مصحة نفسية في الواقع اسمها الكوثر فلا بد من التساؤل عن دلالة الاسم، فالكوثر في الأصل هو اسم نهر في الجنة، («إنا أعطيناك الكوثر» سورة الكوثر) وفي اللغة الكوثر يعني المبالغة في الكثرة (كثير، أكثر، استكثر) وأيضاً الرجل السخي، فضلاً عن استخدامه اسم علم مؤنثاً. جاء عالم الكوثر في الرواية وهو يفيض بقصص ساكنيه، قصص تكشف مجتمعًا آخر غير الذي نعرفه، حيوات كاملة بأفكارها واختياراتها. هو عالم الكثرة التي تجعل الراوي يتساءل عما إذا كان يمكن الاكتفاء به وتحويله إلى وطن بديل «لناسه الوافدين إليه رغماً عنهم من كل حدب وصوب»، وذلك حين «يتحول التكيف مع الوطن الأصلي إلى هدف بعيد المنال.» فعالم الكوثر لا يستدعي وضع الأقنعة الاجتماعية المعروفة، بل هو عالم يسمح للذات بأن تتنفس لحظة حرية مع ضمان عدم المعاناة من الأحكام القيمية. وكان الراوي يدخل المصحة ولا يقطع علاقاته بالخارج، ما يضمن عدم سقوط الذات في العزلة أو الانغماس في تهويمات الاكتئاب، وهي علاقة تواصل صحية شرحها العالمان الفرنسيان دولوز وغاتاري. عبر تلك العلاقة المستمرة بين الراوي داخل عالم الكوثر وبين كل ما يحصل خارجه، ظل حسين على الحافة، وهو موقع ثري يسمح بالتأمل والفهم ويمنع ظلمة الاكتئاب من الإجهاز على الروح. ولكن، إذا كان عالم مصحة الكوثر مفهوماً في الرواية، فإن ما يقع خارجها هو ما يستدعي التحليل من ناحية تجلياته. يقوم هذا العالم على مفارقة نفسية، فكلما ضغطت أحداثه وشخصياته على الراوي تقع لحظة الانهيار التي تدفعه إلى الهروب للكوثر، فينسحب من القسوة الخارجية من دون أن ينعزل. يتحول العالم الخارجي إلى استعادة لفترة التكوين في حياة حسين الآتي من مدينة المنصورة. أما الحاضر فيتجلى في متابعة دقيقة لكتابات الـ «فايسبوك وتبادل رسائل مكثف بين حسين والطاهر يعقوب المقيم في الخارج. هو إذاً عالم يقع خارج المصحة، لكنه عالم مغاير، افتراضي، اختياري، انتقائي. يبدو الماضي الذي يسرده حسين بتكثيف شديد يسير بإيقاع سلس على رغم المآسي التي يحملها، أما الحاضر فيأخذ شكل الشذرات غير المكتملة. سرد متقطع يفتقر إلى خطية سرد الماضي. شذرات من هنا وهناك، مثل حركة العقل الذي يعاني الاكتئاب، اللااكتمال، اللاتمام، اللامبالاة، اللااهتمام واللارغبة في المتابعة. هي أشياء تحدث ويمر عليها السرد كأنه يتفرج على هو خارجه. إلا أن هذه الملاحظة الأخيرة تحمل مفارقة أخرى أيضاً. ففي الرسائل المتبادلة بين حسين والطاهر يعقوب، تبدو المصحة كأنها فاضت بكثرتها الشفائية على حسين. فالطاهر يعقوب نفسه ليس بعيداً من الاكتئاب، إلا أن الخطابات المتبادلة - والتي نقرأ منها جانباً واحداً تؤكد أن الشفاء آتٍ لا محالة من طريق الكتابة. بمعنى آخر، يلوح الشفاء عبر رغبة حسين في الكتابة وعبر حرصه على نشر خطابات الطاهر يعقوب التي جاءت بمثابة تقنية بارعة لوضوح اختلاف صوت الطاهر عن صوت حسين: «ستنجو من الاكتئاب يا صديقي لأن لا مهرب من فعل هذا...». هي الكتابة، الملاذ الأخير من أجل الوقوف على الحافة بدلاً من السقوط في الهوة.
مشاركة :