الشاعر والصحافي المصري محبّ جميل إلى ضبط المواد الأرشيفيّة للفنانة فتحية أحمد، في محاولة لرصد سيرتها الفنيّة من وجهة نظر توثيقية، محيطاً بجوانب حياتها المختلفة سواء الشخصيّة منها أو العامة، مستعيناً بالصور والنصوص والوثائق الرسمية وغير الرسميّة إلى جانب الأرشيف الفني الخاص بها، لتقديم كتاب وثائقي عنها يؤرخ ويؤرشف مسيرتها الفنيّة وتطورها والتبدّلات التي طرأت عليها، إلى جانب علاقاتها مع فناني وفنانات عصرها سواء في مصر أو في المنطقة العربيّة. إرث الخمسين عاما يناقش محب جميل في مقدمة الكتاب، الصادر عن دار الجديد في بيروت، سبب اختياره لفتحيّة أحمد وسعيه إلى الكتابة عن حياتها وتوثيقها، وذلك إثر دافع شخصي كون صوتها بنظره من الأصوات المؤثرة في بدايات القرن العشرين، إلى جانب غياب المواد الدقيقة عن حياتها في الصحافة أو الكتب، فتاريخ ميلادها مثلاً مازال موضع شكّ، ويرجح جميل أنها ولدت إما عام 1905 وإما سنة 1908 وذلك بالمقارنة مع الأحداث المرتبطة بطفولتها والتي لا شكّ في صحتها. عمد جميل إلى بناء الكتاب على أساس تقسيم موضوعاتيّ أحياناً وزمني أحيانا أخرى، إذ يتناول الجوانب الشخصية المرتبطة بها وما توفر من أخبار عنها وعن نشأتها وسط أسرة فنيّة، فوالدها الشيخ أحمد الحمزاويّ اشتهر بكونه منشداً ومبتهلاً إلى جانب خالتها “العالمة” الشهيرة باسم بمبة كشر، وأختها الكبرى المغنيّة رتيبة أحمد، ثم نقرأ عن اكتشاف موهبتها في المدرسة حيث دعتها إحدى المعلمات للغناء، إلا أنها تركت المدرسة ليكتشفها بعدها أحمد عسكر ليتدخل نجيب الريحاني بعدها ويدخلها عالم المسرح الغنائي في سن مبكرة حيث ألهبت مشاعر المشاهدين بغنائها وسذاجتها الطفوليّة في بعض الأحيان. نكتشف بين الصفحات أيضا بعض الجوانب الخاصة بفتحية أحمد والقصص والنوادر المرتبطة بسيرتها، كذلك يرسم جميل ملامح السنوات الأخيرة من حياة الفنانة، التي أنهكها مرض السكري وجعلها تعتزل الساحة الفنيّة في منزلها لتستقبل الضيوف وتتغنى بماض وإرث فنيّ يمتد إلى أكثر من خمسين عاماً، لتوافيها المنية في منزلها في العام ذاته الذي رحلت فيه أم كلثوم. نقرأ في الكتاب أيضاً عن رحلات فتحية أحمد المتعددّة والتي ساهمت بصقل ثقافتها الموسيقية وتوسيع مجالات التجريب الموسيقي التي عرفتها وتقديم ما هو جديد للساحة الموسيقية المصريّة، كما يخبرنا جميل كيف حصلت فتحية أحمد على لقب مطربة القطرين، إذ تعرّف عليها الشاعر خليل مطران في مدينة زحلة وطلب من أحمد شوقي ومحمد عبدالوهاب أن يطلقا عليها هذا اللقب لغنائها في كلّ من سوريا ومصر، إلى جانب نيلها لقب ملكة المواويل، إذ يرى جميل أنها أتقنت ارتجالها وتكرارها بألوان مختلفة، ليقدم خلال تحليله هذا مقاربة نقديّة للمواويل وأنواعها وطبيعة تقسيماتها ومقاماتها المختلفة. التجديد الموسيقي نجد في الكتاب بحثاً مفصلاً عن علاقة فتحية أحمد بالملحنين مثل سيد درويش وزكريا أحمد وأبوالعلا محمد وأحمد صبري التجريدي ورياض السنباطي وتأثير كل منهم على صوتها ومهارتها في الأداء، حيث ساهم كلّ منهم بأسلوبه في تطوير ثقافة فتحية أحمد الموسيقيّة وقدراتها على اكتشاف مساحات جديدة من صوتها، كما يشير جميل أيضاً إلى تجربتها في سوريا وتعاونها مع فناني تلك الفترة، إلى جانب علاقتها بالمسرح الاستعراضي ودور بديعة المصابني التي ساهمت صالتها في شهرة العديد من فنانات تلك الفترة ومنهن فتحية التي كانت لها وصلة قدمتها لفترة في صالون المصابني. كذلك نقرأ عن أدوارها المسرحية والسينمائية إلى جانب قامات عصرها من فنانات وفنانين شكّلوا المرحلة الذهبية للموسيقى العربيّة، كما لا يخفى الصراع مع أم كلثوم التي حاولت أن تهيمن على الساحة الموسيقيّة والإطاحة بمنافسيها. يقدم الكتاب في ملاحقه الأربعة مقاربة ببليوغرافية لسيرة فتحية أحمد، إذ يستعرض ما كتب عنها في صحافة عصرها كما في روز اليوسف والرسالة والكواكب وآراء النقاد فيها وفي أعمالها المختلفة، ثم توثيقاً لمختلف أعمالها الغنائية سواء أكانت طقطوقات أم أغنيات للمسرح أو السينما، إلى جانب إفراد ملحق للاستفتاء الذي طرحته مجلتا روز اليوسف والمسرح في العشرينات من أجل معرفة أي نجمة “يفضّلها غالبيّة السمّيعة”، مستعيداً الصراع الجماهيري في تلك الفترة والجدل حول النتائج خصوصاً أن التصويت الجماهيري انتهى بأن تكون فتحية أحمد هي الفائزة لكونها محبوبة الجماهير لا أم كلثوم أو منيرة المهديّة.
مشاركة :