الممثل الفرنسي فابريس لوكيني الذي نشرت مذكراته أخيرا بباريس بعنوان “الكوميديا الفرنسيّة، هكذا بدأ الأمر”.العرب عمار المأمون [نُشر في 2017/10/14، العدد: 10781، ص(16)]فنان يحيا ويصف ما حوله بعيني من قرأهم لطالما أسر فابريس لوكيني الجمهور بأدائه المتماسك وعلاقته مع اللغة الفرنسية التي تعود لها الحياة حين يتلفظ بالكلمات ويردد أبيات الشعر التي تعود إلى قرن أو أكثر من الزمن، فلوكيني من أشهر ممثلي السينما والمسرح في فرنسا، بالرغم من أنه لم يدرس في أي من مدارس التمثيل الكبرى أو الأكاديميات الفرنسيّة الأدبيّة. بداية الطريق ارتبط صوت فابريس لوكيني بالعديد من الإصدارات الصوتيّة التي يقرأ فيها لنا بسحر خاصّ نصوص سيلين وفيكتور هوغو ولافونتين وغيرهم من أعلام الأدب الفرنسي. لوكيني الذي يدّعي أنه نيتشوي يحضر دوماً على شاشات التلفزيون متحدثاً عن باريس والأدب الفرنسيّ مقدماً قراءته الخاصة للأدب لا بوصفه ناقداً بل كقارئ ومؤد عاشق للكلمات، مأخوذ بالسحر والموسيقى التي تمتلكها اللغة الفرنسيّة سواء كان يتحدث عن جحيم رامبو أو عن فراديس بودلير.علاقة لوكيني وطيدة بالأدب فهو يحيا ويصف ما حوله بعيني من قرأهم، فاللغة هي التي تكوّن ما حوله وتكسبه المعنى ويقول لوكيني إن ما يشدّنا إلى الأشخاص الذين نراهم على التلفزيون من المشاهير سواء كانوا كتابا أو علماء، لا يتعلق بحضورهم الشخصي، بل بكلماتهم حينما يتحدثون عن شيء يفوق قدرتهم، كممسوسين بفكرة أو موضوع يتجاوزهم كأشخاص نحو عوالم لامتناهية، وهذا ما نراه في سيرته الذاتية الصادرة مؤخراً عن دار فلاماريون الفرنسيّة، ففيها وبعكس ما يشير إليه العنوان يتحدث لوكيني عن الآخرين وأفكارهم وحضورهم، وعن علاقته مع من مرّوا في حياته عبر نصوصهم التي قراءها وحفظها وأدّاها محاولاً فهم خفاياها وأسرارها، لتبدو سيرته الذاتية المعنونة بـ”الكوميديا الفرنسيّة، هكذا بدأ الأمر” أشبه بتعليقات شخصية لمؤد مأخوذ بالكلمات بانسياب اللغة الفرنسيّة. هو يدرك سطوة اللغة كمؤسسة وأهمية امتلاك مهارة التحدث بها، فهو أمام حضور يتجاوزه شخصياً، إذ يقول إن لا خلاص في الأدب ولا تجاوز للطبيعة البشريّة بل انعكاس لتغيراتها، أما عمله كممثل فنابع عن رغبته في التواصل مع الآخرين والإصغاء إلى صمتهم بين الكلمات التي يقولها على خشبة المسرح. ولد لوكيني في باريس عام 1951، ولم يلتحق بأي مؤسسة أكاديمية رسميّة، بل علّم نفسه بنفسه، ليلتحق بعدها ببعض صفوف الدراما ويبدأ حياته كممثل مسرحي وسينمائي، ويحصل عام 1984 على جائزة السيزار لأفضل ممثل في دور ثانوي عن دوره في فيلم “ليالي القمر المكتمل”، لتتالى بعدها أدواره في أكثر من ثمانين فيلماً وعشرات المسرحيات، إلى جانب عدد من التسجيلات الصوتيّة له، أشهرها الذي صدر عام 2011 حيث يلقي فيه لنا مقاطع من كتاب رولان بارت الشهير المترجم للعربية باسم “شذرات من خطاب في العشق” وبعده بعام تسجيل صوتي آخر فيه مقتطفات من لافونتين وبودلير.تعليقات شخصية لمؤد مأخوذ بالكلمات حياة مليئة بالشعر يحدثنا لوكيني عن طفولته وحياته مع والدته وتنقله إلى جوارها في شوارع باريس وأحيائها مشياً على الأقدام أو في الباص رقم 80، فلوكيني من رواد الأحياء الشعبيّة التي كان ينصت بشغف لكلام سكانها وأساليبهم اللغويّة والتعابير المعكوسة التي تشتهر بها الفرنسية والتي يتقن لوكيني التلاعب بها، إذ يرى أن هذه اللغة الموازية اللارسميّة تختلف عن تلك الأكاديمية كونها ذات وقع موسيقيّ وبعد اجتماعيّ مرتبط بتلك الفئة التي لم تنل التعليم العالي، فهي لا تنتمي إلى عوالم القواعد المضبوطة، بل إلى ما هو عفويّ واعتباطيّ، كما يحدثنا لاحقاً كيف كان يستخدم هذه التعابير المعكوسة في عروضه ومسرحياته المختلفة. نقرأ أيضاً عن علاقة لوكيني الوطيدة مع الأدب فهو يحيا ويصف ما حوله بعيني من قرأهم، فاللغة هي التي تكوّن ما حوله وتكسبه المعنى، وهذا ما يتضح من عنوان المذكرات “هكذا بدأ الأمر” وهي أول جملة من رواية لويس فرديناند سيلين الشهيرة “رحلة في أقاصي الليل”، فلوكيني عاشق لسيلين، إذ أسرته الرواية ولاحقته مفرداتها وجملها منذ كان بعمر السابعة عشرة، حينها أهداه أحدهم نسخة من الرواية حين كان مارّاً بحيّ مونمارت الباريسي الشهير، ليشرح بعدها تطور علاقته مع لغة سيلين وكيفية تأديته لكلماته ونصوصه وحذره أثناء لفظها وعدم المبالغة في الأداء وذلك لالتقاط شعرية سيلين وكيفية بنائه للجملة الفرنسيّة، إذ يرى أنه يمتلك خصوصية تتمثل في تكراره للكلمات، التي تظهر في الجملة عدة مرّات، مركزا عليها بوصفها ضوابط موسيقية، فلوكيني لا يتعامل مع سيلين من وجهة نظر الناقد أو من يحلل النصوص أو مفسراً للتهم التي أكيلت لسيلين، بل يتعامل مع نصوصه كبنّاء لغوي محمّل بالمشاعر. يحكي لنا لوكيني أيضاً عن بعض المواقف الطريفة التي جمعته بمشاهير عصره كالمخرج إيريك روهمير الذي قابله في منزله، حيث ألقى له عبارات من “هكذا تكلم زرادشت” لنيتشه، لتبدأ بعدها صداقة بين الاثنين عملا إثرها معاً في سبعة أفلام، أما لقاؤه الأشهر فكان مع رولان بارت، الذي كان لوكيني يرى فيه شخصية مشابهة لبروست أو سارتر، فلوكيني حاول زيارة بارت لأول مرة في منزله إلا أنه طُرد من قبل الحاجب، بعدها ذهب لحضور إحدى محاضراته في الكوليج دو فرانس، وهناك وأمام أنظار مئات الحاضرين، حصل على رقم هاتفه كما دعاه بارت لزيارته في منزله، ليسأله لوكيني حين زاره عن رأيه في البنيويّة والسيميائيّة وغيرهما من المواضع ليرد بارت “اسمح لي بأن لا يكون لي رأي في ما تسأل عنه”، ليتحول بعدها الاثنان إلى حديث عن القبعات وهما واقفان أمام المرآة في مدخل منزل رولان بارت.
مشاركة :