بات حل الدولتين يخضع للحسابات الإسرائيلية التي، ومنذ بداية عملية السلام، تتنازعها سياستان داخليتان تنطلقان من نفس الهدف: تثبيت وجود إسرائيل الاستراتيجي وحل الأزمة الديمغرافية التي تهدد مستقبلها كدولة يهودية.العرب سلام السعدي [نُشر في 2017/09/23، العدد: 10760، ص(8)] بعد اجتماعه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم، عبر الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن تفاؤله بمواصلة عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وذلك انطلاقا من “جدية” لمسها عباس لدى الرئيس الأميركي في شأن إبرام اتفاق سلام في الشرق الأوسط خلال فترة منظورة. التوصل إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية يتطلب جدية الطرف الإسرائيلي قبل الأميركي. مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تعتبر الداعم الأول لإسرائيل والضامن الوحيد لمشروعها في الشرق الأوسط منذ تقلدت دفة الهيمنة على العالم من بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن إسرائيل باتت تتمتع بعناصر قوة متعددة مهّدت لتطوير مناعة عالية ضد الضغوط الأميركية، في حال قررت الأخيرة ممارستها. لا تواجه إسرائيل تحديات حقيقية منذ توقيع اتفاقيات السلام مع كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير. تطور اقتصادها بصورة سريعة وتخطت تصنيف “الدول النامية” وهو ما يؤمّن استقرارا اجتماعيا وسياسيا. الأهم ربما هو بؤس الوضع السياسي والتنظيمي للفصائل الفلسطينية ولسلطة الحكم الذاتي. يضاف إلى ذلك تفتت الهوية الوطنية الناتج عن شتات التجمعات الفلسطينية، ونقصد تجمع اللاجئين، تجمع الضفة الغربية وقطاع غزة، وتجمع حاملي الجنسية الإسرائيلية، وتضارب أهدافهم القريبة والبعيدة على حد سواء. بات حل الدولتين يخضع للحسابات الإسرائيلية التي، ومنذ بداية عملية السلام في مطلع التسعينات، تتنازعها سياستان تنطلقان من نفس الهدف: تثبيت وجود إسرائيل الاستراتيجي وحل الأزمة الديمغرافية التي تهدد مستقبلها كدولة يهودية. هنالك بلا شك تيار إسرائيلي يطرح حل الدولتين، ولكن ليس بهدف إنهاء الصراع وإحقاق بعض العدل للفلسطينيين، بل يطرحه كحل لأزمة إسرائيل الديمغرافية وليس لأزمة الفلسطينيين الوجودية. الاستراتيجية الإسرائيلية التي تحظى بالإجماع تقوم على ضم كامل الأرض الفلسطينية ولكن من دون سكانها. كان ذلك هو هدف المشروع الصهيوني في فلسطين منذ البداية، وهو ما استدعى شن حرب 1948 والتي انتهت بنكبة الفلسطينيين وتهجرهم من أرضهم. وتواصل المشروع في حرب 1967 والتي نجحت فيها إسرائيل في احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية ولكنها لم تتمكن من طرد الفلسطينيين. علق البعض بسخرية عن الفائدة التي جناها الفلسطينيون بسبب هزيمة العرب في نكسة حزيران بصورة كاسحة وخلال ستة أيام فقط، إذ كان لسرعة الحرب وانعدام المقاومة أن إسرائيل لم تتمكن من استخدام العنف المفرط وتهجير السكان. ولكن الهدف بقي ذاته وهو الحصول على الأرض من دون السكان، وهنا بدا مشروع الاستيطان والتضييق على الفلسطينيين لدفعهم إلى المغادرة. هنالك اليوم نحو ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وهو ما دفع بعض فئات اليسار إلى طرح مشروع حل الدولتين للتخلص من هذا العبء، وهو ما يتيح لإسرائيل أن تكون دولة ديمقراطية ذات غالبية يهودية. كما يمكن نقل قسم من سكان إسرائيل العرب الفلسطينيين إلى الدولة الجديدة بعملية تبادل أراض هي في حقيقتها تبادل سكان. ولكن التيار اليميني الإسرائيلي يفضل ضم كامل أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية مع الحفاظ على غالبية يهودية. ولن يتحقق ذلك إلا بتهجير السكان، أو بالإبقاء عليهم في دولة “إسرائيل الكبرى” كمقيمين لا يملكون حق التصويت. التغيرات على الأرض أصبحت تشير إلى انعدام تطبيق حل الدولتين واتجاه الطبقة السياسية الإسرائيلية لهذا الخيار. هكذا، دائما ما كانت فرصة السلام والتوصل إلى حل الدولتين محدودة للغاية بسبب تلك الاستراتيجية الإسرائيلية. ربما مثلت مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 أكبر فرصة لتحقيق حل الدولتين، حيث اعتبر الرئيس الأميركي بيل كلينتون في حينها أكثر الرؤساء الأميركيين تعاونا وتفهما للقيادة الفلسطينية من جهة، والأكثر استعدادا لممارسة الضغوط على الإسرائيليين من جهة أخرى. لكن كلينتون اشتكى دوما، كما ظهر في تسريبات لتفاصيل عملية التفاوض، من عدم جدية الطرف الإسرائيلي، ومن التراجع عن الوعود التي كان يقطعها رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينها، إيهود باراك، بل إن الأخير لم يكن قد نفذ القسم المتعلق بانسحاب إسرائيل من كامل أراضي الضفة الغربية كما نص اتفاق أوسلو. ضغط الرئيس الأميركي حينها على ياسر عرفات للدخول في مفاوضات كامب ديفيد قبل أن ينفذ الإسرائيليون الجانب المتعلق بهم في الاتفاق. وافق عرفات على مضض خوفا من الغضب الأميركي الأوروبي ومن تصنيفه كعدو للسلام، ولكنه تحصل قبل موافقته على تعهد من الرئيس الأميركي بعدم تحميله مسؤولية فشل المفاوضات. بالطبع فشلت المفاوضات، إذ لم يتجرأ باراك على تحدي الإجماع الإسرائيلي بالسيطرة على كامل أراضي الضفة الغربية، وأعلن كلينتون أن عرفات هو المسؤول الأول عن فشلها لرفضه تقديم تنازلات ملموسة. ومهد ذلك الطريق للقيادة الإسرائيلية لمحاصرة ياسر عرفات في مقره في رام الله. وهكذا انتهت آمال السلام بحرب على الضفة الغربية وتدمير كل مؤسسات السلطة وحصار رئيسها وربما تسميمه في نهاية المطاف. تبدو الصورة اليوم أسوأ مما كانت عليه في مفاوضات كامب ديفيد، إذ يظهر الإسرائيليون أكثر تشبثا بالضفة الغربية، والفلسطينيون أكثر ضعفا ومشوشي الرؤية بصورة محزنة. أما الإدارة الأميركية فلا تبدو بأفضل حال مما كانت عليه. كاتب فلسطيني سوريسلام السعدي
مشاركة :