ما معنى أن تكون عقلانيا في تفكيرك؟ ماذا يكون رد فعلك حين تتحاور مع أحدهم ثم يقول لك عند نهاية حوار ما أنت لست عقلانيا في تفكيرك؟ أليس من الأجدى أن تكون المقاييس واضحة في أذهاننا حين نتحدث عن العقلانية؟ وهل هي كذلك عند غالبية الناس حين يتحاورون أو عند الذين يدعون صفتها في تفكيرهم؟ هذه جملة من الأسئلة تفرضها الضرورة لأن ما يرشح حول مفهوم العقلانية من مسلمات تدور جلها في أحاديث الناس وبينهم، وأيضا يتسرب شيء منها في أحاديث المثقفين، أصبحت شائعة ومنتشرة وكأننا أمام ظاهرة تسري سريان النار في الهشيم. فكلما أراد شخص ما أن يظهر بمظهر الشخص المتنور أو الحضاري أدعى أنه عقلاني، أو إذا أراد شخص أن يعرف شخصا آخر بأنه منفتح وحداثي قال عنه عقلاني. الخلاصة أننا أمام فوضى عند استخدام لفظة العقلانية في المجال التداولي الاجتماعي. قد ينهض اعتراض هنا ويقول: ما الضير في ذلك قد نجد الكثير من الألفاظ المتداولة بين الناس ليس لها معنى واضحا في أذهانهم. لكنهم لا يعدمون التوافق عند نقطة معينة تساعدهم كثيرًا على فهم بعضهم البعض، ناهيك أيضا عن أن طبيعة اللغة في المجال التداولي الاجتماعي لا تتوقف ألفاظها عند دلالة واحدة، بل تتعدد دلالة الألفاظ بتعدد وتشعب حركة المجتمع وتشظيه في الزمان والمكان. قد يبدو مثل هذا الاعتراض وجيهًا ومقبولًا من وجهة نظر الدارس أو الباحث المهتم بدراسة الظواهر مختبريا. لكن من وجهة نظر الدارس الذي يهمه المضمون الإيديولوجي الذي يكمن خلف فوضى الاستخدام وأثر تمدده على طريقة التفكير الاجتماعي لا يراه كذلك. لذلك الدارس في الحقل الاجتماعي يقرر أن السياقات الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية التي يتم فيها تداول مفاهيم مثل العقلانية هي التي تحدد بصورة كبيرة الدلالات والمعاني التي تتلبس هذا المفهوم أو ذاك. وعليه عندما انتهى الفكر الأوروبي في مسار تطوره التاريخي إلى نتيجة تخص هذا المفهوم مفادها أنه نشأ خط فاصل بين المجال العقلاني والمجال اللاعقلاني حيث الأول أعلى من شأنه والثاني أهمل أو اعتبر هامشيا. ورغم ما شهدنا من تلاشي هذا الخط واختفائه في الفكر الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا الخط الفاصل ظل مؤثرًا في مجال التداول العربي، وأصبح العقلاني هو كل ما يمت إلى التنوير الأوروبي بصلة، مستبعدا في ذات الوقت كل صفة لها علاقة بما هو لا عقلاني كالتفكير الأسطوري والخرافي..ألخ. وجرى إثر ذلك تمييز واضح لا يقبل الخلط. بينما هناك أمثلة عديدة من أصحاب الاتجاه العقلاني في التراث الإسلامي كان تفكيرهم لا يفصل بين هذا المجال أو ذاك، ويمكن الإشارة إلى ابن خلدون على سبيل المثال فرغم عقلانيته التي أخضعها لفحص مختلف الروايات على مقتضى قوانين العمران إلا أن عقلانيته في بعض جوانبها لا تصمد أمام قداسة عدالة الرواة. وهكذا عند ابن رشد وقبلهما ابن سينا مما لا يسع المجال لذكره هاهنا.
مشاركة :