إنت فين.. و«الأوبرا» فين؟!

  • 6/30/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بدأتُ الأمر بمزحة وانتهيتُ بجدال مع رئيس الوزراء العراقي. كانت جراح العراق ما زالت تنزف في ربيع عام 1991م عقب عودة آلاف العسكريين من «جبهة» الكويت وتدمير محطات الكهرباء والمياه والجسور والطرق والاتصالات والوقود في معظم خريطة العراق. أطلق التحالف الدولي على تلك الحرب غير المتكافئة تسمية «عاصفة الصحراء»، وأطلق الإعلام العراقي عليها تسمية «حصل ما حصل» تجنباً لأي سؤال أو جواب. واحتار الشعراء والمغنون في كيفية تناول ما حدث في حرب الكويت إلى أن توصل أحد المغنين الشباب إلى حلٍ للمعضلة الفنية فأنشد: (ما يهمنا «كل اللي صار».. المهم مأمونة الدار). وهي لم تكن مأمونة على الإطلاق، بدليل أن ارتدادات ذلك الذي «حصل ما حصل» استمرت من عام 1990م حتى اليوم ولا نعرف متى تنتهي وكيف. هذا المقال ليس عن تلك الحرب المشؤومة. لكنه عن مزحة ساخنة، كما قلت في أول سطر، نشرتُها في صحيفة «العراق» اليومية التي كانت تصدر في بغداد ويديرها عدد من الزملاء الأكراد المتعاونين مع الحكومة ضد أكراد الشمال. كانت الصحف العراقية حينها تخصص مقالاتها وافتتاحياتها لإعادة إعمار البلاد، وكان لا بد أن أدلي بدلوي، فكتبت أطالب القيادة بالإسراع في تنفيذ مشروع دار الأوبرا في بغداد على الأرض المخصصة لها على شاطئ دجلة مقابل السفارة الإيرانية حالياً! وجاءني ردٌ غاضب من رئيس الوزراء محمد حمزة - رحمه الله - يقول لي فيه ما معناه: «إنتَ فين والحب فين؟» على رأي السيدة أم كلثوم، وهو المعادل المصري اللغوي للمثل العراقي الدارج «عرب وين وطنبورة وين». وحرصاً من سيادته على «الميانة» ورفعاً للتكلف وتقشفاً في الورق كتب ملاحظاته في هامش بجانب المقال المنشور في الصحيفة وأرسلها لي في مغلف أنيق يحمل عبارتين الأولى: «رئاسة الوزراء» والثانية: «سري وشخصي ويفتح بالذات». وبعد أن فتحتُ المغلف بشخصي المتواضع وذاتي الأمارّة بالسوء وقرأتُ «البيان والتبيين» كتبت رداً في مقالي الأسبوعي التالي بدأته ببيت شعر معروف لعنترة بن شداد يقول فيه: «إذا الريح جاءت بالجهام تَشُلُّه.. هذا ليلهُ شلَّ القلاص الطرائدِ» وأرجو ألا يسألني أحد عن معناه. ثم أعقبته ببيتٍ شعرٍ شهير لأمرئ القيس يقول فيه: «مُكِرٌّ مُفِرٌّ مُقبلٌ مُدبرٌ معاً.. كجلمود صخرٍ حطّهُ السيلُ من علِ». وقبل أن أدع رئيس الوزراء يبلع ريقه ليحاول معرفة معنى ما أقول، دخلت في الموضوع «من غير إحِمّ ولا دستور»، فقلت: «إن الطريق إلى إعادة إعمار البلاد يمّر ببناء أول دار أوبرا في العراق لإعادة ضبط التوازن النفسي والتخلص من طنين آذاننا المثقوبة من أزيز الرصاص ودوي المدافع وقصف الصواريخ وانفجار القنابل بعد أن حصل ما حصل». كان العراق يخطط في أيام العز لبناء دار أوبرا فعلاً تُقدم أغاني الريف والأبوذية والمحمداوي والمقامات والمواويل الجميلة لكنها ليست لعرض أشهر مؤلفات الأوبرا العالمية مثل «كارمن» للموسيقار الفرنسي جورج بيزيه و«الأرملة الطروب» للنمساوي فرانز ليهار و«حلاق إشبيلية» للإيطالي روسيني و«عايدة» للإيطالي أيضاً فيردي، وله أيضاً، نابوكو Nabucco أي الزعيم البابلي العراقي نبوخذ نصر مبتكر جنائن بابل المعلقة. وتساءلت في ردي على رئيس الوزراء: «هل هناك عراقي واحد يرفض مشاهدة أوبرا نبوخذ نصر»؟! وأنا أخمن أن 99,99 في المائة من العراقيين في تلك الأيام لا يعرفون الفرق بين «الأوبرا» والمذيعة الأميركية المعتزلة «أوبرا». كنت أدرك أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين معجب جداً بنبوخذ نصر ويعتبره من أعظم قادة العراق القديم، حتى أنه اختار شعاراً لمهرجان بابل الفني السنوي يقول: «من نبوخذ نصر إلى صدام حسين بابل تنهض من جديد». كان الرئيس الراحل يفضل نبوخذ على ملك بابل الأشهر حمورابي، لأن نبوخذ نصر كان مهووساً بالقصور والجنائن والقلاع، وكذلك صدام حسين، بينما كان مجد حمورابي قائماً من زمانه إلى الأبد على مَسَلّته وشريعته التي تعتبر أم القوانين في الأرض. كانت «كلمة السر» في مقالي رداً على غضب رئيس الوزراء هي «نبوخذ نصر»، وقد فهمها رحمه الله بسرعة، على غير عادته، ولم يَرُدّ. ويبدو أنه ظن أن اقتراح بناء دار الأوبرا لم يكن من «بنات» أفكاري وإنما من توجيهات السيد الرئيس، فآثر السلامة. وفعلاً كان الرئيس متحمساً لبناء الأوبرا قبل كتابتي عنها بسنوات، على الرغم من أن ذائقته الموسيقية ريفية الهوى، فقد كان معجباً بأغاني الفنانين العراقيين المبدعين ياس خضر وحسين نعمة وحميد منصور. وهو زار أوبرا القاهرة مرة واحدة مع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وشاهد حفلاً للموسيقار العراقي الراحل منير بشير. أتابع الآن عن كثب وبإعجاب نشاطات أوبرا القاهرة والأوبرا السلطانية في مسقط، وأتيح لي أن أحضر بعض حفلات أوبرا القاهرة الأجنبية والعربية، وأجد أنني كنت على حق حين طالبت ببناء دار أوبرا بغداد لتشذيب أذواقنا وتهذيب أخلاقنا وتأديب سلوكنا. لكني، مع ذلك، أحمد الله أن أحداً لم يأخذ اقتراحي مأخذ الجِدّ، وإلا لتحولت دار أوبرا بغداد اليوم إلى أحد اثنين: حسينية أو مقر لميليشيا عصائب «أهل الحق».

مشاركة :