يعرف الجميع المقولة التقليدية المتداولة عن المجتمعات الماقبل حداثية، وهي أنها تعيش في حَمْأة أزماتها مع المحرمات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس. وبالنظر إلى الواقع نجدها مقولة لا تبعد عن الحقيقة، إذ الاختلاف مرتبط بعلاقة غير سوية مع الدين، ومع السياسية، ومع الحريات الشخصية. فقد كان بعض رجال الدين في تلك المجتمعات البدائية كهنوتاً تسلطياً يقمع أنفاس الأسئلة البريئة، والسلطات السياسية أحادية دكتاتورية قمعية متألهة، لا تسمح بالنقد ولا بالمساءلة، والجنس هو أقنوم المحرمات، حيث تتشكل فيه وعلى ضوئه جميع العقد الاجتماعية على اختلاف تمظهراتها. ومن يتجرأ على أيٍّ من هذه المحرمات؛ يتعرض للاضطهاد على مقدار نصيبه من الجرأة التي قد تكون قاتلة في كثير من الأحيان. إن كون التحرر الليبرالي اتجاهاً أو توجّهاً، وليس قوانين جاهزة للتطبيق الآلي، يعني أنه الاتجاه التحرري والانفتاحي، في مقابل التوجهات المحافظة؛ على اختلاف مرجعياتها. وهذا ما نراه واضحاً أشد ما يكون الوضوح في التيارات والأحزاب الغربية وإذا كانت السياسة تحمي نفسها بمؤسساتها القائمة حقيقة على أرض الواقع، وكذلك رجال الدين يحمون أنفسهم بمؤسساتهم ونفوذهم المباشر وغير المباشر، فإن الجنس لا تمثله مؤسسة سلطوية واقعية تحميه. ومن هنا كان هو المحرم الذي يتعرض للاختراق دائماً، خاصة وأن كل فرد هو تَمثلٌ جنسي واقعي خطر!، أي يستطيع بمفرده انتهاك قدسية هذا المحرم، بما لا تسطيع مؤسسات الضبط الاجتماعي رصده؛ حتى ولو كانت أعينها مفتوحة على أعلى درجات الارتياب. لقد تعذر ضبط الجنس بمؤسسة؛ لأن كل فرد هو إشكالية جنسية قائمة بذاتها، وليس الأمر كذلك في مجالي: الدين والسياسة، إذ هما إشكالية وعي بمجالهما(وعي قد لا يملكه إلا قلة، أو لا تهتم به إلا قلة)، بينما الجنس إشكالية فطرية غرائزية تَتَأشْكل من ذات الوجود الإنساني. ولهذا لجأت المجتمعات منذ أقدم العصور إلى بناء سياج أخلاقي معنوي يتمحور حول الإشكالية الجنسية بكل أبعادها. وكانت تُغالي في المنحى المعنوي الأخلاقي؛ كلما أحست أن هذه المسألة تقع خارج نطاق الضبط المؤسساتي المباشر. مع مرور الأيام، وبالتوازي مع عدم قدرة المجتمعات التقليدية على تجاوز أزماتها؛ ارتفعت درجة الحساسية تجاه المسألة الجنسية، وتضخمت العقد النفسية ذات الطابع المجتمعي؛ بمقدار ما تنغلق تلك المجتمعات على نفسها. وقد وصل الأمر ببعض المجتمعات الموغلة في الانغلاق إلى ما يشبه الفوبيا، بحيث باتت ترى تمظهراً جنسياً في كل حركة، بل وفي كل سكون. ولهذا لم يتردد بعض الباحثين في وصف هذه المجتمعات المُمعنة في التزمت الأخلاقي المفتعل بأنها مريضة بالجنس إلى حد العُصاب، بل لقد ردّ بعضهم كثيراً من صور العنف بما فيها العنف الإرهابي إلى هذا المرض العصابي الجماعي الجنسي الذي كاد يفتك بمجتمعات التزمت والانغلاق. إن كل ما يطرأ على المجتمعات التقليدية المريضة بهذا العصاب الجنسي لا تتمثله وعياً إلا بحدود مرضها العُصابي. إنها مجتمعات تتكون من أفراد لا يتصورون أنفسهم، ولا تتصورهم مجتمعاتهم، إلا بوصفهم كائنات جنسية تمشي علي قدمين. فكل شيء في مثل هذا السياق اللاطبيعي/ المرضي إما هو يؤدي إلى الجنس، أو هو يمنع من الجنس. إنها مجتمعات محدودة الأبعاد جداً، بحيث ترى كل فكرة، وكل حركة، وكل مؤسسة...إلخ ذات وظيفة جنسية بالضرورة، أو ينبغي أن تكون كذلك، فإن لم تمنع الجنس فهي حتماً تبيح الجنس؛ لأن لا شيء غير الجنس يهيمن على وعيها المأزوم. من هنا تصبح بعض الكلمات مثل: الحرية الفردية، الفساد، التمرد، الاستقلال الفردي، الأزمة الأخلاقية...إلخ في مثل هذا السياق المأزوم كلمات ذات دلالة جنسية بالدرجة الأولى، بل وربما بالحصر، بحيث لا يتجاوز معناها في إطار الوعي المأزوم حدود عالم الجنس. فمثلاً، مصطلح: الفساد، الذي يعني في العالم المتحضر: الفساد الإداري في إدارة الشأن العام (وهو أصل الفساد ومصدره)، يصبح في المجتمعات التقليدية المتخلّفة محض التجاوزات المتعلقة بمسألة الجنس؛ لا أكثر ولا أقل!. وهنا أذكر أن أحد التقليديين كان يستمع إلى نشرة الأخبار، فسمع أن أحد المسؤولين الأوروبيين يُحاكم بتهمة الفساد، فالتفت إليّ وقال: ’’أليست العلاقات الجنسية مباحة عندهم على الآخر، بلا حسيب ولا رقيب؛ فكيف يُحاكم هذا المسؤول، والمجتمع كله فاسد؟’’. فقلت له: هذا فساد إداري ومالي، وهو عندهم أصل الفساد، وبهذا، فالمجتمع عندهم ليس فاسداً كما تقول. قال: ’’إذا فسدت الأخلاق فلا يصلح أي شيء’’. قلت له: لا زلت تدور في فلك الكوكب الجنسي، فحتى الأخلاق، أنت لا تفسرها إلا بالجنس وحده، ومن ثم تربط بها صلاح كل شيء. قال: ’’الأخلاق الجنسية هي أصل كل شيء’’. وهنا عرفت أن لا فائدة في الحوار، إذ هو ينطق بلسان المرض العُصابي الجماعي. إن الحرية، وتحديداً: الحرية الفردية، والفساد، والتمرد، والاستقلال الفردي، والأزمة الأخلاقية...إلخ، لا يتعاطى معها مجتمعنا إلا من خلال الرؤية الجنسية البحتة. ولهذا، لما تم طرح الليبرالية بوصفها خطاباً في التحرر الإنساني، لم يتمثلها الوعي التقليدي المريض إلا بوصفها خطاباً في التحرر الجنسي!، ملغياً بذلك كل الأبعاد التحررية الأخرى. إن هذا الوعي المنغلق على أوهامه يترك 99% من مسارات التحرر الليبرالي؛ ليختصرها فيما هو أقل من 1% من الحريات الجنسية، وكأن عينه قد تم تصميمها بمواصفات جنسية خالصة، بحيث لا ترى إلا النقطة السوداء في كامل الصفحة، بينما تعمى عن الأعم والأشمل والأهم، والمقصود الغائي بالتحرر الإنساني. كثير من المثقفين العرب وليس كلهم! ، أولئك الذين خرجوا من بيئات تقليدية أوائل القرن العشرين، وذهبوا إلى أوروبا للدراسة، كان أشد ما لفت انتابههم واهتمامهم: الحرية الجنسية؛ إذ هم قد خرجوا من مجتمعات الكبت الجنسي الذي تحوّل إلى مرض، فكانوا يَعمَون أو يتعامون عن الحريات الكبرى في مجالات: السياسة والفكر والاجتماع، منشغلين بهموم مكبوتاتهم. ولا ضير في ذلك لو كان اهتماماً خاصاً، ولكنه للأسف تسرب إلى كثير من مجالات الرؤية، وطبع كثيراً من التصورات التي كانت شواهد للتقليديين لتعزيز مسار اختصار الحريات الليبرالية بحدود الانحلال. ما تختلف به المجتمعات الغربية عنا في مسألة الجنس أنها وضعتها كمسألة فرعية في إطارها الطبيعي. لا أقصد أنها مصيبة في خياراتها فيما يخص هذه المسألة، وإنما أقصد أنهم وضعوها في إطارها الطبيعي كفرع على الأصل الأخلاقي العام. ولا يغيب عنا أن هذه المجتمعات الغربية لا تقف جميعاً من المسألة الجنسية ذات الموقف، لا على مستوى الأعراف الاجتماعية، ولا على مستوى القانون؛ حتى وإن كان احترام الحريات الشخصية هو الإطار العام الذي ينتظمها. فلا حريات منفلتة حتى المجتمعات التي تتبنى من حيث الأصل الفلسفي التحرر بلا قيود. إذن، حتى الحرية في تمردها على الراهن القارّ/ الواقعي، لا تقفز على هذا الراهن، وإنما تتخلق بالتفاعل معه. وبهذا لن تكون الحرية في مجتمع إسلامي هي ذات الحرية في مجتمع مسيحي، والحرية في مجتمع مسيحي لن تكون هي ذاتها في مجتمع هندوكي، وهكذا دواليك. بل الحرية في مجتمع إسلامي لن تكون هي ذاتها في المجتمع الإسلامي الآخر المختلف اجتماعيا/ثقافيا. إن أهم سمات الحرية الليبرالية أنها حرية تستوعب الاختلاف، وتتشكل من خلال الواقع بكل مكوناته المادية والثقافية. وبهذا يستحيل أن تكون الليبرالية في مجتمع إسلامي الهوية ليبراليةَ انحلالٍ جنسي يُبيح كل صور العلاقات الجنسية؛ لا لأن مسألة الحرية الجنسية مسألة هامشية، من جهة، وخاصة من جهة ثانية فحسب، وإنما أيضاً لأن الإسلام على مستوى التنظيم الاجتماعي لا يهتم إلا بضبط الفضاء العام، بينما لا يُمارس في ما يخص تنظيم الفضاء الخاص . إلا سياسة الاقناع/ التوجيه بالفكر والإرشاد. إذا تركنا الفضاء الخاص للقناعات الفردية التي تستمد وعيها من المتاح فكرياً/دينياً، فإن تنظيم الفضاء العام سيخضع في التصور الليبرالي لمتطلبات التحرر من جهة، وللبنية الثقافية والمجتمعية من جهة أخرى. أي سيكون التحرر في حدود الخيارات المتاحة ثقافياً، سيكون اتجاها تحررياً داخل الإطار العام للتوجهات الاجتماعية، وسيجد عمله التحرري الأساس في مضمار المباح ولو بالخلاف عليه دينياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً، وستبقى الثوابت ثوابت، سواء كانت ثوابت عُليا يقينية، أو كانت ثوابت ظرفية تكتسب ثبوتيتها من خلال ضرورتها الموقتة، تلك الضرورة التي قد يدفع بها التحرر الليبرالي إلى مواقع متقدمة عن مواقعها السابقة، بحيث تتجاوز الحد الضروري؛ فتتجاوز ثباتها الظرفي، إلى حيث القابلية للتغيير. إن كون التحرر الليبرالي اتجاهاً أو توجّهاً، وليس قوانين جاهزة للتطبيق الآلي، يعني أنه الاتجاه التحرري والانفتاحي، في مقابل التوجهات المحافظة؛ على اختلاف مرجعياتها. وهذا ما نراه واضحاً أشد ما يكون الوضوح في التيارات والأحزاب الغربية. فالوصف بالليبرالية يُطلق على التوجه الذي يرى منح الأفراد حرية أوسع، أو يدعو للانفتاح المجتمعي على الآخرين عرقياً وثقافياً، داخلياً أو خارجياً. غير أن من المهم التأكيد على كل ذلك التوجه الانفتاحي يجري في إطار قوانين منظمة. فمثلاً، الاتجاه الذي يُؤيد إقفال باب الهجرة هو اتجاه محافظ مقابل الاتجاه الليبرالي الذي يعارض هذا الرأي، ويدعو لاستقبال المهاجرين بأريحيّة إنسانية، ولكن، كل ذلك في الحدود التي لا تضر مضرة واضحة بمصالح البلد العليا. كذلك الأمر في مسألة الانفتاح على المختلفين ثقافياً داخل المجتمع الواحد، فالتوجهات المحافظة تضيق بهم بوصفهم مختلفين ينقضون بُنية الثقافة الراسخة للمجتمع، وقد تغالي بعض اتجاهاتها فترى ضرورة طردهم، وإعادتهم إلى أوطانهم الأصلية التي هجروها منذ عشرات السنين، وكل هذا في مقابل التيارات الليبرالية التي ترى ضرورة تقبّلهم، واحتواء تنوعاتهم الثقافية، بل والمحافظة على هذا التنوع. وطبعاً، كل ذلك في حدود البنية العامة للثقافة الغربية التي لها ثوابتها، على الأقل تلك الثوابت الإنسانية الراسخة منذ بداية عصر التنوير الأوروبي. إن الأغلبية الساحقة من الأنظمة التي نُشرعن بها تفاصيلَ حياتنا كل يوم ليست ثوابت قطعية، لا في الدين ولا في الثقافة ولا في العُرف السياسي. مثلاً، تحديد سن سفر الشباب، وحرية المرأة في السفر، والزواج العبر للجنسيات...إلخ لو تم طرحها للمراجعة التشريعية، فسيكون هناك اتجاهان للتشريع: اتجاه محافظ يصدر عن تصور ديني أو تصور عُرفي/ ثقافي، واتجاه تحرري، يرى منح الأفراد حرية أوسع؛ لأنهم هم المسؤولون في النهاية عن أفعالهم. الاتجاه الأول يرى ضرورة التوجيه والضبط للمصلحة العامة (رؤية شمولية)، وأن كون بعض الأفراد يتحكم إيجابياً بحريته، فإن بعضهم الآخر سيستخدمها فيما يضر به نفسه ومجتمعه، بينما لا يرى التوجه الليبرالي الأمر على هذه الصورة المرتابة بالفرد. وفي النهاية، كلا الاتجاهين يصدر في الظاهر عن إرادة خيّرة، تريد تحقيق أكبر قدر ممكن من الخير الخاص والخير العام. وهنا لا يخفى أن الاتجاه الأول محافظ وتقليدي، يرتاب في مآلات الحرية الفردية، بينما الاتجاه الثاني تحرري، ذو نفس ليبرالي، يرى في الحرية من الإيجابيات التي تتحقق على المدى القريب والبعيد ما لا يراه الطرف الآخر. هنا، وفي مثل هذه المقابلة بين الاتجاهين، نرى كيف أن الحرية الليبرالية ذات مرونة عالية، بحيث يمكن التأكيد على أنها لا تتعارض مع الدين في يقينياته القطعية التي لا تقبل التأويل ولا الإخضاع لليساق المقاصدي. إنه ليبرالية تستخدم الحرية الدينية إلى أقصى حدودها. ولا شك أن مشروعية تتبع الرخص تحضر هنا، على اعتبار أن كل رخصة هي في النهاية: فتوى، قائمة على تأويل في حدود المنطق الشرعي. ولا عبرة بقول بعضهم: "لو تتبعت الرخص؛ اجتمع فيك الشر كله" ؛ لأن هذه رؤية ترتاب بالرخصة الفقهية أصلاً، إذ هي تراها من البداية شراً. لكنها في المقابل لو رأتها خيراً كما يراها الليبرالي؛ لانقلبت الرؤية، بحيث يمكن القول على ضوء هذه الرؤية التي ترى الرخصة من الدين : لو تتبعت الرخص؛ لاجتمع فيك الخير كله. ولا يعنينا هنا اختلاف المناهج الاستدلالية التي أدت إلى تلك الرخص؛ إذ الرخصة في النهاية: فتوى، والأخذ بها لا يقود إلى تأثّم، بل إلى أفعال مأجورة نية أو عملاً. وتبقى المشكاة قائمة عند من لا يرى الدين وشرائعة إلا قطعيات يقينية في التحريم، ولا شيء غير التحريم. إن التحرر الليبرالي في مثل هذا السياق يسير، أي في سياق الروح العامة للمجتمع، وليس هو تحرر انحلالي كما يحاول بعضهم الترويج لذلك. وطبعاً، لا يعني هذا أن الحريات الليبرالية لن يجري استخدامها لممارسات غير مسؤولة أو غير أخلاقية، بل قد يحدث هذا، ولكن هذه مسألة متعلقة بمسؤولية الخيارات الفردية. فهذه الحريات المتاحة، هي كغيرها ذات طابع حِيادي ابتداء، فقد تستخدم في الخير، كما قد تستخدم في الشر. إنها كوسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الجميع يمارس الليبرالية على أوسع نطاق، وتحديداً فيما يخص حرية التعبير. إن كل فرد في تويتر مثلاً، يقف على أرضية ليبرالية؛ شاء أو أبى. إنه يملك حرية التعبير، كما يملكه كل فرد آخر بالتساوي. وهنا كما في الحريات الليبرالية يمكن استخدامها في التوجهات الإيجابية، كما يمكن استخدامها في التوجهات السلبية. وفي النهاية يبقى الفرد من حيث هو فرد حر (ليبرالي هنا!) مسؤولاً عن أقواله أمام دينه وأمام نفسه وأمام إنسانيته وأمام قوانين وطنه. في النهاية، كل حرية ليبرالية تخضع لمثل هذا التصور الذي يشرطها بالمسؤولية، وأي حرية لا تَشْرط بهذا فهي ليست حرية ليبرالية، بل هي حرية الفوضى التي قد تؤدي إلى الانحلال، بل وإلى ما هو أسوأ من الانحلال.
مشاركة :