عادت هوة الخلاف وفجوة الاختلاف تظهر واضحة جلية في مصر هذه الأيام. وهي هوة قائمة على السنوات الفاصلة بين الأجيال وفجوة سنوات يقدر عددها بأربعين ويزيد من تحلل التعليم وتعلل القائمين على الأمور بالانفتاح تارة والمؤامرة تارة والأوضاع الاقتصادية الصعبة دائماً وأبداً. أبدية صراع الأجيال لم ولن تتغير. لكن صراع الأفكار ومصارعة أنماط الحياة وأطوارها وأولوياتها شيء، وصراع الكيانات وبقاء مؤسسات، واستمرار مؤسسات الدولة برمتها شيء آخر تماماً. الصراع الدائرة رحاه هذه الآونة هو بين جموع من الشباب الناقم على الجيش المصري والخالط بين كيانه الدفاعي والسيادي والسياسة من جهة، وبين جموع من الشعب التي تشعر بقلق بالغ أو رفض قاطع لتوجهات أولئك الشباب من جهة أخرى. ليلة العيد نشأت معركة حامية الوطيس داخل البيت. فالأب الخمسيني عاد حاملاً علبة كعك مكتوب عليها اسم محل تجاري تابع لإحدى دور القوات المسلحة. هلل سكان البيت وفرحوا. أكلت الأم كعكة وقالت «الله». وقضمت الجدة نصف كعكة وقالت: «حلو لكن الزبد ليس كزبد زمان». والتهم الأبناء الصغار ربع العلبة وهم سعداء. أما الابن الأكبر عاماً، فقد نظر إلى العلبة ثم إلى أفراد الأسرة السعداء وقال باستهزاء: «ألف هناء وشفاء. كحك الجيش حلو مافيش كلام». نزلت عبارة «كحك الجيش» على الأب والأم والجدة نزول الصاعقة. ثار الأب، وغضبت الأم، وبدأت الجدة تسرد بطولات الجد الراحل في حربي 1956 و1967 وقصص الجيران والأصدقاء ونصر تشرين الأول (أكتوبر) ودور الجيش في حمايته هو وأمثاله خلال الأعوام الستة الماضية (منذ ثورة يناير 2011). لكن الابن أصر على موقفه. وتطور انتقاده المؤسسة العسكرية من ضلوع الجيش في تصنيع الكعك إلى السكوت على التنازل عن تيران وصنافير، ثم عرج على متلازمة الجيش والإخوان، ومنها إلى تساؤل خبيث حول سبب ترشح الرئيس السيسي لمنصب الرئاسة على رغم إنه كان أشار إلى أنه لن يفعل بعد أحداث 30 حزيران (يونيو) 2013. هنا تحولت الصاعقة التي نزلت على البيت نيراناً مشتعلة انتهت بطرد الابن من البيت في ليلة العيد. أيام العيد وما سبقها وما تلاها امتلأت بنشاط عنكبوتي مكثف وحنق على أرض الواقع مرسخ حول هجوم قطاعات من الشباب هجوماً عنكبوتياً على الجيش، ودفاع قطاعات من الشعب دفاعاً شرساً عنه. يقول مؤمن فرج (53 سنة) وهو أب لثلاثة أبناء ومعلم في المرحلة الثانوية, إن المشهد الحالي نتيجة طبيعية لحال السيولة الشديدة التي ضربت التعليم والتربية والتنشئة والإعلام في مصر على مدار سنوات طويلة مضت. «تلقيت دراستي الثانوية في مدرسة عسكرية حيث تعلمنا أبجديات العسكرية من حيث الفكر والدور. وبعد ما تخرجت في الجامعة أديت فترة تجنيدي في الجيش شأني كشأن ملايين الشباب المصري. لم أسع لوساطة لأحصل على إعفاء، ولم أبحث عن معارف لأمكث في البيت ولا أؤدي الخدمة. لم أشعر يوماً أن الجيش مكان للقمع أو القهر، ولم يتملكني شعور بأن أداء واجبي في التجنيد يمس حريتي في الاختيار. ولم تطرأ على بالي أفكار كتلك التي يرددها أبنائي اليوم من أن التجنيد يجب أن يكون اختياراً شخصياً، أو أن المؤسسة العسكرية يجب أن تخضع لرقابة البرلمان، أو هذا الهراء الدائر على سبيل السفه والهطب من أن الجيش ترك مهماته الدفاعية وتفرغ لصناعة الكعك والمعكرونة». «الجيش بيعمل مكرونة يا منى!» تلك العبارة التي دشن بها المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية وأحد الآباء المحركين لثورة يناير ومؤسس حزب الدستور الدكتور محمد البرادعي منظومة انتقاد الجيش المصري لضلوعه في صناعات غذائية تارة بالنقد والرفض وأخرى بالسخرية والشتم تحولت اليوم إلى نقطة فارقة فاصلة في صراع من نوع جديد بين الأجيال. الأجيال الشابة ترى في السخرية حقاً مكتسباً، والكبيرة ترى فيها انتقاصاً وقلة أدب. بعض الشباب لا يربط بين السخرية من الجيش والمطالبة بتقليصه والتشكيك في دوره في مواجهة الإرهاب وبين شح الوطنية، وبعض الكبار يرى ارتباطاً مؤكداً بينهما. المتحدث الرسمي باسم الهيئة العربية للتصنيع العميد وليد محمد يقول للشباب الساخر من الجيش: «لو خدمتم فيه ما سخرتم منه. أليس هذا هو الجيش الذى أجهض مشروعهم لإعادة تقسيم المنطقة، ورأس الحربة في المعركة ضد الإرهاب من أجل العالم؟ والذى حافظ على تماسك ووحدة تراب مصر، فلم يصبها ما أصاب دولاً شقيقة بالدمار والخراب باسم مشروع الخلافة الإسلامية؟» ويضيف: «تقولون إن مهمة الجيش هي حماية الوطن والحدود. وأقول ومتى قصر أو انشغل عن مهمته الأساسية ؟ تقولون: جيش الكحك، والمكرونة! وأقول هل تعلمون أن الجيش الأميركي يمتلك مئات المصانع الغذائية؟ فهل يستطيع أحد منكم أن يقول إن الجيش الأميركي جيش الكاتشاب والماكدونالدز والشيتوس؟» وعلى رغم أن غالبية آكلي الكاتشاب والبرغر والشيتوس هم من الشباب، إلا أن الربط بينها وبين الجيش الأميركي أو التشكيك في دوره بسببها لا يرد بين الأجيال الشابة. الأجيال الشابة تعتريها مشاعر متضاربة. البعض يعتبر الجيش جزءاً لا يتجزأ من الشعب، فهو يرى أعمامه وأخواله وجيرانه ومعارفه ضباطاً وجنوداً. والبعض متأثر بفكر جماعات الإسلام السياسي المعتبر الجيش جهة معتدية محتلة، بل وهناك من تراوده أفكار أكثر تطرفاً فيجد في دعوات محاربة الجيش والشرطة وقتل أفرادها واجباً شرعياً وفق أمراء الجماعات واستجابة لدعوات مظلوميات جماعات كالإخوان المسلمين. وهناك من لا يرى هذا أو ذاك، فلا تشغل باله كثيراً مسألة كون الجيش جزءاً من الشعب، ولا يتلفت كثيراً الى أفكار جماعات الإسلام السياسي. لكن أولئك يفضلون عدم التجنيد، إما لخوفهم من فكرة الحياة الصعبة، أو لتفضيلهم العمل على توك توك أو وظيفة تدر دخلاً بديلاً من سنة أو أكثر يهدرونها مجندين. هذه الفئة تضم شباباً قابعين على قمة الهرم الاقتصادي والاجتماعي فيسعون إلى الوساطات والمعارف لدرء صعوبة التجنيد، كما تضم شباباً ساكنين قاعدة الهرم يلتحقون بالتجنيد بدافع الاضطرار. أما الواجب الوطني فهو في خبر كان إلا في ما ندر. ندرة الوازع الوطني (إلا في أوقات الكوارث والمصائب) يفسرها الجيل الأكبر بأنها إما وئدت بفعل الإسلام السياسي الذي وضع الهوية الدينية في مكانة أعلى من الهوية الوطنية، أو قُتِلت مع قتل منظومة التعليم التي تحولت تجارة في مراكز الدروس الخصوصية بغير تربية أو تنشئة، أو تقلصت مع تشتت دور الأسرة التي انشغلت بتحسين مستوى الحياة على حساب التربية. أما الشباب، فيرون الوازع الوطني بمفاهيم شديدة الاختلاف والتباين. مصطفى أيمن (22 سنة طالب جامعي) يستاءل مستنكراً: «حين أدافع عن تيران وصنافير وأعتبرهما مصريتين هل أكون عديم الوطنية؟» ويقول صديقه خالد عوض (23 سنة): «ولو كانت الوطنية تقاس بمدى الرغبة في الالتحاق بالجيش بهدف التجنيد لقلنا إن الغالبية المطلقة من الشباب ليسوا وطنيين. ما المنطق في جعل التجنيد مقياساً لحب الوطن؟ ولماذا هناك رفض لتجديد تعريف الوطنية؟». تعريف الوطنية بات نقطة تجاذب وموضع اختلاف وتخوين متبادل بين الأجيال. وفيما قلة تبحث عن جسر للتقريب والحوار، كثيرون ينقبون عن عود ثقاب للتوليع والشقاق.
مشاركة :