في خطوة تدل على الأهمية التي توليها الصين وبريطانيا لعلاقاتهما التجارية والاقتصادية الحالية والمستقبلية، قررت بكين بدء السماح لعملتها المحلية اليوان بالتبادل المباشر مع العملة البريطانية الجنية الاسترليني في شنجهاي العاصمة التجارية للصين. وتأتي تلك الخطوة بعد ثمانية أشهر من التخطيط والتجهيز، وبقدر ما تكشف عن رغبة الصين في تحويل عملتها الوطنية إلى عملة دولية، فإنها تعكس أيضا المستوى الإيجابي للعلاقات الثنائية، وتكشف عن مراهنة مشتركة من بكين ولندن بشأن إيجابية التعاون المستقبلي بين البلدين. والاتفاق بشأن العملات هو أحد العديد من الاتفاقيات الثنائية المهمة التي جرى توقيعها خلال الزيارة الحالية لرئيس وزراء الصين لي كيتشيانج إلى لندن، حيث رافقه نحو مائتي رجل أعمال صيني. وأفصح ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني عن توقيع عقود بقيمة 14 مليار جنيه استرليني "24 مليار دولار" بين الشركات البريطانية والصينية، فيما قرر الطرفان زيادة حجم التبادل التجاري بينهما إلى 100 مليار دولار بنهاية العام المقبل. وعلى الرغم من ضخامة تلك التوقعات إلا أنها لا تزال أقل كثيرا من العلاقات التجارية المزدهرة التي تتمتع بها الصين مع كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، إذ تستوعب الصين 5.4 في المائة، و3.4 في المائة، و2.5 في المائة من صادرات تلك البلدان على التوالي، بينما لا تزيد الصادرات البريطانية للصين حتى الآن عن 2.1 في المائة من إجمالي صادرات المملكة المتحدة للعالم الخارجي. وشدد كاميرون على الجاذبية للاقتصادية لبلاده مقارنة بشركائها في الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا، وقال إن شراكتنا تمثل شراكة حقيقية للنمو والإصلاح والابتكار، مشيراً إلى أن التبادل التجاري بين الصين وبريطانيا وصل لمستوى قياسي، حيث بلغت صادرات بريطانيا إلى الصين نحو مليار جنيه استرليني شهريا وهي تنمو بمعدل أسرع من صادرات فرنسا وألمانيا إلى الصين. وأضاف كاميرون أن هذه الأرقام تؤكد مرة أخرى أن بريطانيا هي أكثر اقتصادات الاتحاد الأوروبي انفتاحا وأنها الأكثر ترحيبا بالاستثمارات الصينية بما في ذلك في صناعتنا النووية ومشاريع البنية الأساسية ونحن مصرون على التمسك بهذه الطريقة. وبالتزامن مع الزيارة، أعلنت تيريزا ماي وزيرة الداخلية البريطانية عن تخفيف القيود على قواعد الحصول على تأشيرات السفر للزائرين الصينيين بهدف جذب مزيد من السائحين الصينيين. وكانت بكين اشتكت من أن القيود البريطانية تصعب على الصينيين زيارة بريطانيا مما يجعل اقتصاديات أوروبية أخرى مثل فرنسا وألمانيا، التي تأتي ضمن منطقة التأشيرة الأوروبية الموحد "شينجن" التي تشمل 26 دولة أكثر جذبا للصينيين. وحول العلاقات المستقبلية بين البلدين، أوضح ستيفن جارني رئيس لجنة العلاقات الصينية - البريطانية في هيئة الغرف التجارية في المملكة المتحدة لـ "الاقتصادية"، أن هناك آفاقاً واعدة بين الجانبين، تحفزها معدلات النمو الراهن لدى بكين ولندن، ونمو الطبقة المتوسطة في الصين يجعلها راغبة في الحصول على السلع التجارية ذات العلامات التجارية البريطانية الشهيرة، إضافة إلى أن الخطوة الأخيرة بسماح الصين بالتبادل المباشر بين اليوان والاسترليني ستجعل الشركات الصينية تزيد من طلبها على قطاع التأمين والخدمات المالية البريطانية. وتضاعفت صادرات بريطانيا للأسواق الصينية خلال السنوات الأربع الأخيرة، إلا أن نصيب المملكة المتحدة من الأسواق الصينية تراجع ليصبح الآن أقل من 1 في المائة، وقد بلغت الصادرات البريطانية للصين نحو 10.1 مليار دولار نهاية العام الماضي، مقارنة بـ 73 مليار دولار لألمانيا، و19 مليار دولار لفرنسا. وحول أسباب عدم نجاح بريطانيا حتى الآن في منافسة برلين وباريس في الأسواق الصينية يقول جورج أولي مسؤول العلاقات التجارية مع بلدان شرق آسيا في قسم التجارة والاستثمار في الحكومة البريطانية لـ "الاقتصادية"، إن علاقتنا التجارية مع الصين لا تزال تفتقد للتنوع الذي تتمتع به ألمانيا وفرنسا، فإذا كانت تجربتنا في تصدير السيارات للصين ناجحة فإن الصادرات الألمانية والفرنسية تمتد من الطائرات إلى السلع الإلكترونية، وهذا يتلاءم أكثر مع احتياجات السوق الصينية. وأضاف أولي، أنه على الرغم من ذلك فإن الاتفاق التجاري الذي وقع بين البلدين أخيرا بنحو 14 مليار جنيه استرليني "24 مليار دولار" سيسمح بتعزيز العلاقات التجارية، ونقلها لمرحلة نوعية جديدة، كما أن تطور الاقتصاد الصيني وارتفاع مستوى معيشة الملايين من البشر يجعل الطلب الصيني يتحول من المواد الأولية إلى المواد المصنعة وهو ما يفتح آفاقا جيدة للسلع البريطانية مستقبلا، وأعتقد أنه بنهاية العقد المقبل ستتفوق الصادرات البريطانية للصين على مثيلتها الألمانية. وتظهر الصين اهتماما ملحوظا بالاستثمار في مجالي البنية الأساسية والطاقة في المملكة المتحدة، فقد وقعت اتفاقا مع شركة بريتش بتروليوم "بي بي" عملاق الطاقة البريطاني بقيمة 14.75 مليار يورو "20 مليار دولار"، يمتد لـ 20 عاما تقوم بمقتضاه الشركة البريطانية بإمداد الصين بالغاز الطبيعي المسال، هذا إضافة إلى مشاريع أخرى أقل حجما في مجال الطاقة تتضمن مشاريع مشتركة بين شركات صينية ونظيراتها البريطانية بقيمة 400 مليون استرليني لتطوير استخدام الألواح الطاقة الشمسية. ومع هذا فإن تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين الطرفين تعرض لانتقادات واسعة من قبل قوى تقليدية محافظة في بريطانيا، فالعديد من وسائل الإعلام لم ترحب بحصول الصين على الحق في امتلاك وتشغيل محطات طاقة نووية صينية التصميم في بريطانيا، وينتقد البعض الخطوة البريطانية لأسباب متعددة. ففي تصريح لـ "الاقتصادية"، أبدت إليزابيث تيم من حزب المملكة المتحدة المستقل تحفظات على ذلك بالقول، إن ملف الصين في الأمن والسلامة في المفاعلات النووية محل تساؤل وريبة، كما أن الطاقة النووية تحديدا تدخل في صميم الأمن القومي البريطاني، ولا يمكن التعامل معها بالمنطلق التقليدي للمشاريع التجارية. ويعتقد مجلس الأعمال الصيني - البريطاني الذي يضم 650 شخصية من كبار رجال الأعمال في بريطانيا، أن على الحكومة التخلص بسرعة من مجموعة العقبات التي تحول دون تسريع وتيرة التبادل التجاري بين بكين ولندن، وأبرزها ارتفاع قيمة الاسترليني في مواجهة العملات الدولية الأخرى مثل اليورو والدولار والين الياباني. وأشارت ويندي أندرسون أحد الأعضاء المؤسسين لمجلس الأعمال الصيني البريطاني لـ "الاقتصادية"، إلى أنه على الرغم من أن الصادرات البريطانية للصين تعتمد على النوعية وهو ما يخفض نسبيا من التأثير العكسي لارتفاع قيمة الاسترليني في مواجهة العملات الأخرى. وأضافت أن مواصلة بنك إنجلترا الحفاظ على المعدلات الراهنة لانخفاض سعر الفائدة يعزز فرص العديد من الشركات البريطانية الصغيرة في التجارة مع الصين، مشددة على أن التحدي الحقيقي أمام البريطانيين يكمن في كيفية التغلب على المنافس الألماني. وتشير الإحصاءات المتاحة إلى أن الاستثمارات الصينية المتجهة لأوروبا تصب في ألمانيا بالأساس فـ 44 في المائة من استثمارات الصين في بلدان الاتحاد الأوروبي وجهت لألمانيا، بينما لم تزد الحصة البريطانية عن 19 في المائة.
مشاركة :