تحصد قطر اليوم ما زرعته عبر أكثر من عشرين عاماً من السياسات التي لا يمكن وصفها على الإطلاق بالحكيمة. فعبر العقدين الماضيين اختارت الإمارة لعب الدور الوظيفي المرسوم لها وانتهجت سياسة اللعب على التناقضات، بداية من التناقضات داخل العائلة الحاكمة، مروراً بالتناقضات داخل مجلس التعاون الخليجي، وصولاً إلى التناقضات في منطقة الشرق الأوسط، وحتى التناقضات في السياسة الدولية. حاولت الدوحة الاضطلاع بدور مؤثر في القضايا الخارجية للمنطقة والإقليم، وعلى رغم أنها لا تمتلك القوة الصلبة للعب هذا الدور إلا أنها أدركت باكراً أن بإمكانها استثمار قدراتها الاقتصادية الضخمة في إيجاد قوة مرنة أو ناعمة للإمارة يكون بمقدورها تعويض انعدام تلك الصلبة وهو ما كان، فتحولت الدوحة منذ عام 1995 وحتى مطلع الألفية الثانية مقصداً لعدد من المثقفين والمفكرين العرب والعجم، وحظيت غالبيتهم بلقاء أميري، واستُخدمت قناة «الجزيرة» كواجهة لتحويل الإمارة كبؤرة إشعاع ثقافي، لكن بالطبع نحو الخارج. ولعبت «الجزيرة» في حينه الدور بحرفية وموضوعية وتحولت إلى منتدى ثقافي وسياسي لكثير من المفكرين والمعارضين والمضطهدين في العالم العربي الذين وجدوا في القناة منبراً لإيصال أصواتهم لشعوبهم وللعالم، مع أن قطر ليست واحة للديموقراطية أو التعددية الثقافية الليبرالية، وهى ليست «الهايد بارك». واستطاعت قطر نسج شبكة من العلاقات الوثيقة المدعمة مالياً وإعلامياً بمعظم حركات المعارضة في العالم العربي، وفى مقدمها حركات الإسلام السياسي. إن قطر التي حافظت على سفارة «طالبان» ومكتب «حماس» السياسي ومكتب التمثيل الإسرائيلي عبر 15 عاماً، استطاعت أن تحقق بالقوة الناعمة تأثيراً أكبر مما كان يمكن أن تحققه القوة الصلبة عبر المال وقناة «الجزيرة» وما وراءها. وبحلول عام 2011 وهبوب رياح الربيع العربي لم يكن أحد في هذا العالم قادراً على التأثير في اتجاه رياحه كما كانت قطر بقناة «الجزيرة»، وهنا تحولت التناقضات الإقليمية إلى صراعات دموية سقطت خلالها أنظمة ودول بأكملها، ما أدى إلى تحويل الدور القطري، بفعل القصور الذاتي نتيجة تسارع الأحداث، من مرحلة التأثير إلى مرحلة الفاعل والموجه في أحيان كثيرة، خصوصاً في الدول التي عصفت بها رياح الربيع العربي. ولم يكن أمام قطر غير خيارين: الأول تغيير الاستراتيجية القديمة والعودة إلى الحجم الطبيعي لها وتحمّل العواقب، أو الانتقال من الدور الوظيفي الثأثيري إلى الدور الفاعل، بكل ما تحويه هذه المرحلة من أخطار، نظراً إلى وجود لاعبين إقليميين ودوليين كبار في ميدان الفعل الذي يتطلب القوة الصلبة، ولا تبدو القوة الناعمة فيه ذات تأثير البتة. وكان الخيار الثاني هذا خيار حكام الإمارة القاتل، خصوصاً مع حسم القوة الصلبة في دول الربيع العربي الأمور لمصلحتها، ما أدى إلى خفض حدة التناقض في السياسات داخل الإقليم بسبب الأخطار الاستراتيجية التي باتت تحدق بالجميع عقب هدوء رياح الربيع العربي التي خلفت دماراً وجلبت التطرف إلى المنطقة بأبشع صوره الإرهابية. ولم تعد سياسة التأثير عبر اللعب على التناقضات ذات جدوى، خصوصاً أن الدوحة عبر ما يزيد على 20 عاماً لم تفلح في جَسر التناقض بين أي طرفين كانت وسيطاً بينهما، لأنها في واقع الأمر لم ترغب في حل أي تناقض بل تعميقه، فبمقدار تعميق التناقض يزيد التأثير ويتسع الدور القطري، والأزمة اليمنية وملف المصالحة الفلسطينية خير دليل، لكن التناقضات اليوم بدأت التلاشي داخل الإقليم وأصبح القرار للقوة الصلبة الإقليمية والدولية. اليوم تجني قطر نتاج سياساتها ليس أكثر، فهي لم تنجح في بناء تحالفات استراتيجية إقليمية أو حتى دولية سليمة أو منطقية، فقاعدة العديد اليوم ترفض مكتب «طالبان»، ومكتب التمثيل الإسرائيلي غير راغب في مجاورة مكتب «حماس» السياسي، فقطر التي لم تكن معنية إلا في زيادة تلك التناقضات وإطالة عمرها بين الفرقاء تجد نفسها اليوم أمام إقليم موحد ضدها وحلفاء دوليين يصفونها بداعمة للإرهاب. إنها ساعة الحقيقة، فإما أن تلبي الإمارة مطالب الإقليم والتي تبنتها قوى عظمى، وإما أن تبقى على سياستها وتتحمل العواقب، وفي الحالتين وبعد انتهاء هذه الأزمة لن تكون قطر هي التي عرفها العالم خلال العقدين الماضيين.
مشاركة :