إذا سألت إيرانياً عن أكثر الأشخاص الذين يكن لهم الإعجاب، فإن الاحتمال الأكبر أن تأتي الإجابة في صورة قائمة من الشعراء - بدءاً من أبي القاسم الفردوسي وسعدي شيرازي منذ قرون مضت إلى إيرج ميرزا وسهراب سبهري منذ وقت قريب. وينظر الإيراني العادي إلى الشاعر ليس كصانع للجمال فحسب، وإنما كذلك كحارس لضمير الأمة. وتعتبر إيران واحدة من دول قلائل للغاية عالمياً التي تتضمن قائمة المشاهير بها في أي وقت عدداً من الشعراء، والتي لا يزال إلقاء الشعر بها يحشد الجماهير بأعداد تنافس أعداد مرتادي الحفلات الغنائية. ونظراً لهذا التقدير الكبير الذي يحظى به الشعر، دائماً ما نجح الشعراء الإيرانيون في النجاة من إجراءات القمع خلال أسوأ حقب الحكم الاستبدادي، ذلك أنه لم يجرؤ أي حاكم مستبد على سجن شاعر، ناهيك بقتله. ويعود تاريخ ما يعرف باسم الشعر الفارسي الحديث إلى قرابة 11 قرناً ماضية عندما أحيت مجموعة من الشعراء الخراسانيين الكتابة بلغتهم الأم. وعلى امتداد كل هذه القرون، لدينا أمثلة قليلة فحسب على شعراء تعرضوا للسجن. وتتمثل الحالة الأشهر في مسعود سعد سلمان، المولود عام 1046 في لاهور، التي أصبحت اليوم جزءاً من دولة باكستان. فبعد أن نال الإشادة باعتباره نجماً صاعداً داخل بلاط الدولة الغزنوية، سقط مسعود ضحية للمكائد والمؤامرات وسجن داخل قلعة بحرية على مدار عقدين تقريباً. وتحولت القصائد التي أبدعها في السجن إلى جزء أصيل من التراث الأدبي الفارسي. من ناحيته، قال الشاعر منوشهر أتاشي إن: «الحاكم الذي يسجن شاعراً تطارده لعنة أبدية». وفي وقت قريب، تحولت الفترة القصيرة التي تعرض خلالها الشاعران ميرزاده عشقي وفرخي يزدي للسجن إلى نقطتين سوداوين في تاريخ حكم رضا شاه الذي تميز بسجل مبهر في التحرك نحو الحداثة. في الواقع، لقد شكلت مسألة احترام الشعراء والتسامح إزاء «تجاوزهم» السياسي والاجتماعي جزءاً أصيلاً من الثقافة والضمير الإيراني. ومع هذا، تعرض هذا التقليد الراسخ للاعتداء من قبل النظام «الإسلامي» الحالي داخل إيران الذي أسسه روح الله الراحل آية الله الخميني عام 1979. ونظراً لأنه نفسه كان شاعراً محدود الموهبة والمكانة، ربما ضمر الخميني الضغينة تجاه الشعراء. اللافت أن واحداً من أول الإجراءات التي اتخذها نظامه خطف الشاعر الشاب سعيد سلطانبور من حفل زفافه، وإعدامه بتهمة التورط في «أعمال عسكرية شيوعية». ولاحقاً، قتل الشاعر والصحافي البارز رحمن هاتفي مونفاريد، المعروف باسم حيدر مهرجان، جراء التعذيب داخل أحد سجون الخميني. وفي ظل الرئيس هاشمي رفسنجاني، أخفقت خطة لصدم حافلة تعج بالشعراء في طريقها إلى مهرجان في أرمينيا في اللحظة الأخيرة بغرض قتلهم. ومع ذلك، نجح رفسنجاني في قتل كثير من الشعراء والكتاب الآخرين. أما أسوأ موجات القتل فوقعت في عهد الرئيس خاتمي، عندما قتل أكثر من 80 مفكراً ومثقفاً، بينهم الشاعران محمد مختاري ومحمد جعفر بوينده، على أيدي عملاء أمنيين سريين يعملون لدى «النظام الإسلامي». حتى الشعراء الذين نجوا من السجن أو القتل، تعرضوا لضغوط نفسية هائلة، منها حظر نشر أعمالهم. على سبيل المثال، استدعى الأمن الإيراني الشاعرة سيمين بهبهاني على نحو متكرر لـ«الحديث معها»، في محاولة لممارسة ضغوط نفسية. أيضاً عانى مهدي إخوان ثالث، أحد أعظم الشعراء الإيرانيين على امتداد الأعوام الـ100 الأخيرة، من تهديدات مشابهة. أما الشاعر الكلاسيكي محمد قهرمان فتعرض لمصير أسوأ، فقد سقط ضحية لكراهية شخصية من قبل «المرشد الأعلى» علي خامنئي، فقد عانى قهرمان وهو في أواخر السبعينات من عمره لوقف معاشه بسبب نشره قصيدة يهجو فيها الملالي. وتشير بعض الروايات غير المؤكدة إلى أن خامنئي تولدت داخله ضغينة حيال قهرمان أواخر سبعينات القرن الماضي بعدما انتقد الأخير إحدى قصائده خلال جلسة خاصة في مدينة مشهد، مسقط رأسيهما. ومنذ ذلك الحين، يرفض خامنئي قراءة قصائد قهرمان أو نشرها. في المقابل، يعمد خامنئي إلى تنظيم مسابقات سنوية للشعر ويترأس ندوات لقراءة الشعر ثلاث مرات سنوياً على الأقل. إلا أنه أصدر أوامره إلى الشعراء بتأليف أشعار تمجد الثورة والشهادة ومحو الصهيونية وتدمير «الشيطان الأكبر»: الولايات المتحدة. الملاحظ أنه منذ استيلاء الملالي على السلطة، اضطر كثير من الشعراء إلى حياة المنفى، ومنهم عدد من الشعراء المشهورين أمثال نادر نادربور وإسماعيل خوي وياد الله روياي ورضا باراهيني ومحمد جلالي. حتى هوشانغ ابتهاج، الشاعر الماركسي الذي لا يزال يدعم النظام، يفضل العيش في المنفى بألمانيا. جدير بالذكر أن هاشم شعباني، الشاعر والمدرس العربي الإيراني، شنق عشية زيارة الرئيس حسن روحاني إلى الأحواز عام 2014. وفي عهد روحاني أيضاً، صدر ضد الشاعرة فاطمة اختصاري، التي قد تمثل الفنانة السريالية الأكثر إثارة على مستوى إيران، حكماً بالسجن 11 عاماً، وكذلك الشاعر والناشر مهدي موسوي. الاثنين الماضي، ألقت قوات الأمن الإيرانية القبض على شاعرين آخرين، صاحب مشيلاشي وأحمد هدهباوي، وكلاهما عرب - إيرانيان يعيشان بالأحواز الواقعة جنوب غربي خوزستان. وكلاهما في أواخر العشرينات من العمر ومن المعروف أنهما من أصدقاء شعباني. أما جريمتهما، فهي تنظيم أمسية شعرية في عيد الفطر. وتدعي مصادر حكومية أن الشعر الذي ألقياه بالعربية والفارسية، هدف إلى إثارة «الشقاق ويعادي الإسلام»، علاوة على الزعم بأنهما من خلال كتابتهما شعر بالعربية فإنهما يسعيان، مثل شعباني من قبلهما، إلى تقويض الوحدة الوطنية. ويأتي ذلك على الرغم أن في إيران تاريخاً طويلاً من شعراء كتبوا بالفارسية ولغات أخرى منها العربية، أمثال سنائي ورومي وخاجو كرماني الذين كتبوا أشعاراً بالعربية. وعلى امتداد قرون، كتب المئات من الشعراء الإيرانيين بلغاتهم الأصلية ولهجاتهم المحلية، بجانب الفارسية. ومن بين الأمثلة الحديثة على ذلك حسين شهريار، أحد أعظم كتاب شعر «الغزل» على مدار الـ100 عام الأخيرة، ذلك أنه كتب أيضاً قصائد بالآذرية، لغة والدته الأصلية. وقبل الثورة الخمينية، نال شهريار أرفع صور التكريم الوطني لأعماله الشعرية. أيضاً عند إمعان النظر في التراث الشعري الإيراني، نجد أنه يزخر بأعمال شعرية بالكردية والبلوشية والتركمانية وغيرها من اللغات الـ18 السائدة داخل إيران، بل وهناك شعراء إيرانيون كتبوا أو لا يزالون يكتبون بلغات أوروبية. مثلاً، تعتبر قصائد فريدون رهنما الفرنسية نماذج أدبية رفيعة الجمال. أيضاً، تعد أشعار ميمي خلوتي الإنجليزية من لآلئ الشعر الإنجليزي الحديث. ولا شك أن النظر إلى كتابة الشعر بالعربية، لغة القرآن قبل أي شيء، من قبل نظام يزعم كونه الراعي الوحيد الحقيقي للإسلام عالمياً أمر يثير الحيرة، على أدنى تقدير. ومثلما ذكر أحد المعلقين عبر «تويتر»، فإنه من الغريب حقاً أن يكون باستطاعة الشعراء إلقاء أشعارهم العربية علانية في إسرائيل، لكن ليس داخل جمهورية إيران الإسلامية!
مشاركة :