يسعى المثقف، بوعيه التاريخي ومهامه التنويرية، إلى تقديم الإطار المعرفي والجهاز المفاهيمي لبناء الوعي بالأحداث، والمقدرة على استشكالها، واستخلاص تقدير موقف من الأحداث من خلال ربط ما يطفو على السطح بالزمن المتوسط والزمن الطويل. دون أن يقتنع بهذه الحدود، وإنما يتجاوزها إلى الغوص بين الثنايا وفي الأعماق لاستنطاق "العقل" الجمعي، ومساءلة الجغرافية الحضارية بحثا عن حلول لواقع معتل.تختلف هذه المهمة باختلاف الموقع الذي يكون هذا المثقف قد اختاره لنفسه، فهو إما أن ينضم إلى جوقة النسق التقليدي، وبذلك يكون مثقفا محافظا أو واعظا للسلطان؛ بتعبير الكاتب العراقي علي الوردي، تُسند إليه أدوار تاريخية معلومة. أو يختار الانزياح إلى صفوف الجماهير منتقدا ممارسات السلطة ضد المجتمع، فيكون في هذه الحالة مثقفا عضويا؛ بتعبير الإيطالي أنطونيو غرامشي. إلى جانبهما ظهر صنف ثالث جديد من المثقفين، يعرف بالمثقف الناقد الذي يجمع الدورين معا؛ أي ينتقد ديكتاتورية السلطة وديكتاتورية المجتمع.في السياق العربي الراهن، نكاد نعدم حقا مثقفين عرب واعين بمهامهم المجتمعية، وبحساسية اللحظة التاريخية التي تعيشها الأمة. خصوصا بعد الانقلاب الذي حصل في الأدوار، حيث تحول المثقف إلى مجرد هامش يستند إليه السياسي متى دعت الضرورة إلى ذلك. وأداة تابعة للإعلامي، يستعين بها قصد تأثيث الفضاء، حتى صرنا في وضع أشبه ما يكون بوضع الحصان خلف العربة.يتضح ذلك من خلال المفارقة التي تواجهنا عندما نقارب دور المثقف في مجتمعنا العربي بوجه عام، ففي الوقت الذي تعتبر فيه جهوده الإبداعية والمعرفية، بصفة عامة، وازنة ومركزية في مصائر المجتمعات، لكونها تؤسس فضاءات الزمنين المتوسط والطويل. نجد أن مساهماته في قراءة مجتمعه، وفهم تحولاته تظل رهينة اللحظي والآني، وتكتفي بما يتمظهر على السطح من أحداث ووقائع. لذلك لا نستغرب تماهي جزء كبير من الخطاب الإبداعي والمعرفي مع ما تنتجه الآلة الإعلامية والسياسية، إن لم نقل إنه في أحيان كثيرة يبدو الثقافي، بمختلف تجلياته، أسير سلطة الإعلام والسياسة من خلال ارتهانه لمقولاتها ومفاهيمها.تنضاف هذه المعضلة الجديدة؛ والطارئة على الساحة الثقافية عربيا وحتى عالميا، إلى تراكمات من الأعطاب عشنا على وقعها مع أجيال من المثقفين في العالم العربي. يبقى أوضحها انفصال جزء كبير من هؤلاء عن الشعب، فمنذ ظهور المثقف في السياق العربي المعاصر؛ كوريث للفقيه في النظام التقليدي، اختار الإقامة الرمزية في "المنفى"، للنضال من أجل التحديث والإصلاح والحداثة والتنوير... في محاولة جادة منه لاستنساخ التجربة الأوروبية بشكل كربوني، بلا أي اعتبار للخصوصية المحلية والسياق التاريخي والمحمولات الاجتماعية، وما إلى ذلك من العناصر الحاسمة في تحقيق أي نهضة أو بلوغ التغيير المنشود. زاد هذا الوضع من حجم الهوة وأسهم في اتساع مساحة سوء الفهم بين المثقف وبين الجمهور، فمعظم الأطروحات التي بشّر بها المثقفون العرب في الماضي، التي قادت أقلامهم إلى اليأس والخيبة، مستوحاة من منفاهم الثقافي. بعبارة أخرى نقول، إنها جاءت نتيجة لسوء التقدير الذي أقامه المثقف العربي للأمور، ما تولد عنه في المحصلة سوء تشخيص ورداءة في الاصطفاف. كل ذلك أدى بدوره إلى إغلاق أي أفق في المجتمعات العربية بحبسها في الآني، وحرمانها من إمكانات فتح ثغرات في الجدران السميكة التي تحبسها، وتَرهَنها للتآكل والتدمير الذاتي.قد يبدو هذا السجال -في نظر الكثيرين- تغريدا خارج السرب، في لحظة تاريخية لم يمر على العرب نظير لها منذ زمن الاستعمار؛ فمشروع الدولة العربية يشهد فشلا ذريعا في أكثر من قطر، ولظى الحروب الطائفية والعرقية يتطاير من هذه الرقعة إلى تلك في الإقليم العربي، كما أضحى القرار العربي أجنبيا في أكثر من عاصمة بفعل التدخل الخارجي السافر...، والحبل على الجرار في لائحة تطول من الأزمات التي قد لا نبالغ عند نعتها بالأزمات الوجودية بالنسبة للعرب.لكن إمعان النظر في الموضوع يظهر أنه من الأولويات، وربما يكون أحد المداخيل الأساسية التي يمكن اعتمادها عند التعاطي مع واقع العالم العربي. فإلى جانب الأزمات يثار سؤال كبير مفاده أي مهمة يمكن أن تناط بالمثقف في المجتمع العربي اليوم؟ هل بقي من دور للمثقف اليوم، أمام حالة الانهيار الكبيرة التي نعيشها في مجتمعاتنا، التي يسميها بعض ممن لم يفقدوا روح التفاؤل مخاضا؟ أليس المثقف على مر التاريخ؛ في التجربة الأوروبية مع فلاسفة الأنوار بالخصوص، بمنزلة البوصلة التي يسير على هديها السياسي والإعلامي؟ ألم تشكل أزمات الشعوب وانكسارات الأمم وقودا للانطلاق وقوة دفع لدى قبيلة المثقفين بحثا عن مشاريع فكرية ومجتمعية للإنقاذ والتغيير؟ ألن تظل رؤية السياسي محدودة التأثير ما لم تحظ بمثقفين يحملونها أو ينتقدونها –على حد سواء بحسب موقع المثقف- حتى تكون مشاعا بين الأفراد والمجتمع؟ما أكثر الأسئلة على هذه الشاكلة، التي لا تبحث لها عن إجابات بقدر ما تتطلع إلى مثقفين يقتنعون بأن جانبا من خلاص الشعوب بين أيديهم، وأن الوقت حان لبلورة رؤية -وليس مشروعا لأن زمنها انتهى- لذلك، أملا في تدارك تلك الإرادة السياسية التي تسعى بكل قوة لإعادة الاستقرار إلى الإقليم العربي.Image: category: ثقافة وفنونAuthor: محمد طيفوري من الرباطpublication date: الخميس, يوليو 6, 2017 - 03:00
مشاركة :