بدأت تجربتي مع الكتابة بعد تخرجي في الجامعة وبعد حصولي على شهادة الدكتوراه في الفلسفة في منتصف السبعينات من القرن الماضي حين بدأت بكتابة الأبحاث والدراسات الفكرية، وقد نشر العديد منها في مجلات مختلفة. دام هذا الأمر حتى بداية التسعينات حيث قررت الانتقال إلى قول مختلف وهو القول الروائي الذي وجدت فيه نفسي ومكنني من امتلاك قول خاص، كان رائدا في حينه من خلال كتابة السيرة. كنت من أوائل الذين تجرأوا على الغوص في دواخل الشخصية وعرض كل تشعباتها، المسموح به في تلك الفترة وغير المسموح به، حيث كسرت أهم التابوهات وهو تابوه الجنس وبخاصة عند المراة. لكن تجربة الكتابة لا تكتمل من دون تجربة القراءة، هما متلازمان بشكل كلي. لقد قرأت الكثير والكثير قبل خوضي تجربة الكتابة. وما زلت أتابع كل ما ينشر وبخاصة ما يتعلق بكتابات النساء التي كثرت في هذه الأيام وهو أمر جيد. وهي في غالبيتها تدور في فلك السيرة حتى ولو اتخذت شكل الرواية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنني فخورة بأنني أول من فتح هذا الباب أمام جيلنا ومن أتى بعده. لكن على الرغم من هذا القبول الإيجابي لما يكتب في هذا الإطار، لا بد من بعض الملاحظات، وهي ملاحظات تجمعت لدي من خلال متابعتي شبه المستمرة لما ينشر وبخاصة كتابات النساء وأتوقف فقط عند السيرة التي تصرح عن ذاتها من دون التستر وراء «الرواية». لا بد من الاعتراف بأن كتابة السيرة ليست بالأمر السهل. هي تتطلب جرأة الغوص في الأعماق والحفر في كل الطبقات التي تكون الشخصية. وقراءتي لبعض ما نشر مكنتني من القول إن هذه السير ليست سوى نوع من عرض العضلات وسرد لأحداث مرت بها الأنثى الكاتبة. وهي في مجملها أحداث برانية تاريخية أحيانا، تعتقد الكاتبة أنها تضفي على شخصيتها أهمية معينة وكأنها من خلال كتابتها للسيرة تريد تلميع صورتها التي لا تجرؤ على كشفها كما هي في الواقع. ربما كان لهن أعذارهن في إخفاء بعض من شخصياتهن وبعض مما مررن به في حياتهن خوفا من الزوج أو الابن.. إلخ، خجلا من بعض ما قمن به ويردن إخفاءه ويحاولن تكريس هذا الإخفاء بفعل القول لعلمهن ما للكلمة، وبخاصة المكتوب منها، من تأثير. إنهن نعامات هذا العصر مع أنهن من جيل هو جيلنا الذي تمكن من كسر كل المحرمات السياسية والدينية والجنسية وغيرها. وهو أمر نفتخر به واضعين رؤوسنا في الهواء الطلق ولا ندفنها في التراب كما يحاول البعض فعله في كتابتهن للسيرة. كتبت السيرة فأتت مسيجة بعازل من زجاج مصفح يرى الناظر من خلاله كل أبعاد الشخصية بضعفها وقوتها ويقف أمامها عاجزا، بينما بعض ما قرأته في هذا المجال هو نصوص تضع كاتبتها نفسها في قفص من زجاج مزركش وملون يخفي أكثر مما يكشف، لكنه زجاج غير مصفح يهوي أمام من يرمي عليه حصاة صغيرة. لكن كل هذا الاهتراء لن يثنيني عن متابعة القراءة، علها تمدني بالقوة لمتابعة الكتابة. * روائية، وأستاذة الفلسفة في الجامعة الأميركية بلبنان. من أعمالها: «أما هي أنت»، و«تركت الهاتف يرن»، و«رحلت والدتي بقيت أمي»، و«أيهما هو»، و«الصفحة الثانية».
مشاركة :