الأصل والقبو لتوماس برنارد على خشبة فرنسيةانطلاقا من روايتين استهل بهما توماس برنارد مسيرته الأدبية، ليسرد طفولته في مدينة سالزبورغ، نسج الفرنسي كلود دوبَرفي بورتريه متعدد الأصوات، مزج فيه الواقع بالخيال، لينقل من خلاله صيحة إنذار كان أطلقها الكاتب النمساوي ضدّ غواية القومية والرداءة، في نص مسرحي بعنوان “البرد يزداد مع الصحو”، عرض مؤخرا على خشبة “الهضبة” بباريس.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2017/07/10، العدد: 10687، ص(16)]فكر متبرم من الحرب والدين غالبا ما ينعت النمساوي توماس برنارد (1931-1989) بالسوداوية ومعاداة الإنسان، برغم نزعته الإنسانية التي تتبدى في بعض أعماله ومواقفه، ولعل هذا ما حدا بالفرنسي كلود دوبَرفي، الذي سبق أن أخرج مسرحية “أشجار للقطع” للكاتب نفسه، أن يبرز ذلك الجانب المنسي من شخصية برنارد، ضمن عمل بعنوان “البرد يزداد مع الصحو” استوحى محتواه من عملين سرديّين هما “الأصل” و”القبو” كان الكاتب النمساوي بدأ بهما سلسلة بيوغرافية، واستوحى عنوانه من نص قصير عن الخرافات والحقيقة في القرن العشرين كان ألقاه عام 1965 بمناسبة فوزه بجائزة مدينة بريمن للأدب، وذكر فيه تلك الجملة. ويرى النقاد أنهما على قدر من الأهمية من جهة وضعهما الإطار الذي نشأ فيه برنارد، أي مدينة سالزبورغ في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان حينئذ في سن الثالثة عشرة أرسله جده إلى مدرسة داخلية يشرف عليها ضابط نازيّ شرس يدعى غرونكرانز. وفي تلك الإعدادية، استبدت به فكرة الانتحار، لشدة خوفه وعزلته، حيث كان يتعلم العزف على الكمان في خلوة لحفظ الأحذية، وحزنه لفراق جده، وهو أنارشيست، وفيلسوف غير امتثالي، يحب الطبيعة والرسم والموسيقى والكتب. ولما دمر طيران الحلفاء المدرسة، ودمر معها كمانه، فرّ برنارد ليلوذ بـ”الاتجاه المعاكس”، كما يقول، أي الأحياء الشعبية التي تكرهها نخب سالزبورغ وبورجوازيوها ويعددون في ذمها النعوت، فعمل في بقالة داخل قبو بإحدى الضواحي الكادحة، ليعيش تلك التجربة كامتحان ضروري، وغرفة انتظار تفتح على الجحيم، هناك خالط بشرا أصلاء، عمالا متواضعين، وأرباب أسر، وفخر بوجوده بين فئات الشعب الكادحة. هناك اعترف لعَرفه بُودْلاها أنه “تعلم فن العيش داخل مجموعة”. وعندما انتهت الحرب، عاد إلى تلك المدرسة الداخلية بعد أن أعيد بناؤها، وفوجئ برجل دين كاثوليكي على رأسها، وصليب يعوض صورة هتلر على الجدار، ما جعله يعلق قائلا “في النهاية كنا مسحوقين بين هتلر ويسوع بوصفنا نسخا من صورتيهما، جُعلت لتفسد عقول الشعب”. والمسرحية التي عرضت مؤخرا على خشبة “الهضبة” الباريسي تأخذ من نصي برنارد، لا سيما “الأصل”، الإرهاصات الأولى لفكر متبرم، ليس من الحرب وحدها وإنما من الديانة أيضا، يقول في هذا الشأن “القومية الاشتراكية وكذلك الكاثوليكية هما من الأمراض المعدية، أمراض عقلية، ولا شيء عداها”، فما هما في نظره سوى رمزين يوهنان الفكر الذي هو بصدد التشكل، والملكة الذهنية لكي يفكر الإنسان بنفسه. ومن حسن حظ برنارد أنه لم يصب بعدوى ذَينك المرضين، وهو الذي ما انفك يبيّن إلى أي حد يمكن أن تتحول النازية والكاثوليكية إلى آلتين جهنميتين لتدمير البشر، والذي أنقذه هو جده، “فيلسوفه الخاص”، ذلك الجد الذي أخذ عنه حرفة الكتابة، مثلما ورث عنه النقمة على الوضع القائم، بقيمه المتآكلة، وأعرافه البالية، لا سيما منذ أن التحق الفتى بذلك الحيّ البائس في الطرف الآخر من المدينة البورجوازية. هذا الانتقال يركز عليه دوبَرفي ليرسم مسارا بين الاحتراق وبرد اليقين، وهو مسار جهد المخرج في تتبعه عبر أعمار برنارد المتعاقبة، ليقدم أربعة أنماط من الموسيقى المتمردة لذلك الذي يقبل بأن “يذرف دموع كامل جسده، شرط أن يغنم فرصةً لفحصِ نفسه”، لأن الموسيقى، كالأدب، كانت تحتل مكانة مركزية في بناء أسلوب برنارد، لا يتخذها كملاذ، بل كموقع مثالي للنظر إلى الشر وجها لوجه. المسرحية بحث عن الهوية ومواجهة مبدئية في إطار كتابة متوترة، تدور حول نفسها، وتتقدم تحت صحو بارد لا تملك النفس إلاّ أن تقاومه، وهي أيضا كلمة رفض تتبدى على الركح، ويتجلى فيها دوبَرفي كاتب سيرة وهو يشهد من موقعه تنامي الهويات التي تسكن شخصية بطله، في فضاء منغلق على الدوام، قبل أن ينفتح للنور، وتتفكك ألواح الخشب الواقية كي ينفذ ضوء النهار. أن يرسم المخرج باقتدار طيف علَمٍ على الخشبة، منذ طفولته إلى حياته كهلا بعد أن أصبح كاتبا، وأن يجعل آلامه الدفينة وانفعالاته وأفكاره تنبض بالحياة نبضا يكاد يُلمس، فذلك رهان استطاع أن ينهض به باقتدار كلود دوبَرفي في تكريمه لكاتبه المفضل النمساوي توماس برنارد، عبر أربعة أصوات ترجّع أصداء كتابته وفكره وتساؤلاته وتكراره المهووس وموسيقاه الحزينة.
مشاركة :