مصدر الصورةGetty Images غالبا ما يؤدي التصميم الجيد لأماكن العمل إلى خلق بيئة تجعل العاملين فيها أكثر قدرة على الابتكار والإبداع. ويحدث ذلك في كثير من الأحيان، حتى دون أن يدرك هؤلاء أنهم باتوا كذلك بالفعل. سعادة غامرة اجتاحت بامبي جورج عندما قررت إدارة شركة "فاليروم" للتكنولوجيا، التي تعمل فيها، أن تنقل مقرها من مبنى صغير المساحة عديم الملامح إلى مقر أكبر. فالمقر السابق للشركة، في مدينة كانساس سيتي بولاية ميزوري الأمريكية، كان يفتقر إلى أي إضاءة طبيعية تقريبا. أما جدرانه، فكانت رمادية باهتة. في المقابل، يختلف المقر الجديد تماما، فكل جدرانه مطلية بدرجات ألوان خضراء، وصفراء، وزرقاء نابضة بالحياة. أما الضوء الطبيعي، فيدخل إلى غالبية أنحاء المبنى عبر مُرشحات. وبينما يبدو المكان مُهيئا بشكل أكبر لحمل العاملين فيه على مزيد من العمل والإنتاج، ترى جورج - وهي نائب رئيس الشركة لشؤون العمليات والتشغيل - أنه أُعِد كذلك من أجل جعل هؤلاء العاملين أكثر إنتاجية وابتكارا. وتقول في هذا الشأن: "الأمر لا يعود للمساحة وحدها، وإنما تتفتق كذلك أذهان الناس هنا عن كل ضروب الأفكار المجنونة والمبتكرة". المفارقة أن فكرة تحلي موظفي هذه الشركة بقدرات أكبر من حيث الابتكار والإبداع بمجرد نقلهم من مكان لآخر؛ لا تشكل تصورا غريبا للغاية كما قد يبدو الأمر للوهلة الأولى، فهناك عدد متزايد من الدراسات التي تشير إلى أنه يمكن أن يكون للإضاءة ولون الجدران، بل حتى ارتفاع الأسقف، تأثير كبير على الطريقة التي نفكر بها. ففي الوقت الذي يمكن أن تشكل فيه المكاتب الضيقة والمفتوحة على بعضها البعض خيارا غير مكلف بالنسبة للشركات لكي تكدس أعدادا أكبر من موظفيها في مساحة أقل، فإن بيئات عمل مثل هذه يمكن أن تستنزف قدراتنا الإبداعية. وبرأي كاي سرجانت، مديرة قسم تصميم أماكن العمل في شركة "إتش أو كيه" العالمية لتصميم الشركات والمباني الإدارية؛ فإن "المكاتب صُممت لعقليات (تفكر في أمور) التصنيع. لكن غالبية ما نفعله فيها هي أعمال معرفية تُقدِر أهمية الابتكار والإبداع". (اقرأ أيضا: "التنصت" من أبرز سلبيات العمل في الأماكن المفتوحة) وأضافت سرجانت: "يحتاج الناس للشعور بالأمن والراحة، ما يُفسح لهم المجال لكي يكونوا مبتكرين وذوي قدرات خلاقة". وتشير إلى أن عدم إشباع هذه الاحتياجات قد يلحق الضرر بقدرة المرء على الإبداع". وغالبا ما تؤدي أماكن العمل جيدة التصميم إلى تهيئة بيئة تجعل العاملين فيها يفكرون على نحو أفضل. ويحدث ذلك حتى دون أن يدرك هؤلاء - في كثيرٍ من الأحيان - أنهم فعلوا هذا الأمر. وفي الوقت الراهن، ثمة توجه نشط من قبل المسؤولين في بعض الشركات، يتمثل في اتباع الأساليب العلمية لمساعدة موظفيهم على إطلاق العنان لقدراتهم الذهنية. اللون الأخضر تقول سالي أوغستِن، الخبيرة في علم النفس الخاص بالتصميمات المتسقة مع البيئة، إن اختيار الألوان التي تحفز القدرات الإبداعية أكثر من غيرها، هو أحد أسهل الطرق لتحقيق مثل هذا الهدف. وتساعد شركة "ديزاين ويذ ساينس"، التي تعمل فيها أوغستِن، ومقرها ولاية إيلينوي، المؤسسات والشركات الأخرى على توظيف النتائج التي تتوصل إليها الدراسات العلمية بشأن التصميمات المُحفزة على الإبداع، في تصميم مكاتبها ومقارها.مصدر الصورةAlamyImage caption استخدام اللون الأخضر في طلاء جدران المكاتب، مثلما هو الحال في هذه الشركة الموجودة في لندن، يمكن أن يساعد على التفكير الإبداعي وعلى الرغم من أن التفضيلات الشخصية تلعب دورا في مسألة استحسان اللون الأخضر من قبل البعض، فإنه يتم الربط بشكل مباشر بينه وبين التفكير الإبداعي. كما يمكن أن تزيد ألوان براقة زاهية أخرى، مثل درجات الأزرق الفاتح، ودرجات اللون الأصفر، من القدرة على الإبداع والابتكار أيضا. وبحسب أوغستِن، ربما يكون هناك سببان لوجود مثل هذا التأثير. أولهما أن الألوان ذات التأثير المهدئ، مثل درجات اللونين الأخضر والأزرق، هي أقل إثارة وتشتيتا للذهن من تلك الأكثر كثافة مثل اللون الأحمر. لذا، فإن مثل هذه الدرجات اللونية لا تشتت انتباهنا عن المهام التي نؤديها بالفعل. كما أن اللون الأخضر يذكرنا بالطبيعة، وهو ما قد يساعدنا على الاسترخاء، كما تقول أوغستِن. لكن في المقابل، إذا كان هناك لونٌ يتعين علينا تجنبه في هذا الشأن فهو الأحمر. فعلى الرغم من أنه قد يعطي المرء منّا دفقةً من الطاقة، فقد رُبِطَت رؤيته بتدهور الأداء التحليلي للإنسان، وكذلك بأن تنتابه مشاعر أكثر عدوانية.نمط الإضاءة بحسب أوغستِن، تلعب الإضاءة دورا محوريا كذلك فيما يتعلق بتعزيز القدرة على الإبداع. فقد تبين أن تحقيق التوازن الصحيح في هذا الشأن أمرٌ جوهري للإبقاء على الحالة المزاجية للعاملين في أفضل صورة ممكنة، خلال وجودهم في مكان العمل. فالإضاءة الخافتة بشدة، التي تجعل مكان العمل أكثر إظلاما من اللازم، تُشعِر العاملين فيه بالنعاس. أما الإضاءة شديدة السطوع، فقد تثير في نفوسهم القلق. )اقرأ أيضا: كيف تتعامل مع الأصوات الصاخبة في بيئة العمل؟) ويوصي الخبراء بأن يكون مستوى السطوع المثالي في مكان العمل نحو 500 شمعة معيارية (لُكس)، وهو المسمى الذي يُطلق على وحدة شدة الضوء في نظام الوحدات الدولي. ومن شأن هذا المستوى جعل الإضاءة شبيهة بشروق الشمس في يومٍ صافٍ. وبرغم ذلك، فإن الإضاءة الطبيعية - كما تقول أوغستِن - هي أفضل أنواع الإضاءة. وقد تبين أنها تُحسن حالتنا المزاجية، وتجعلنا ننال قسطا أكثر راحة من النوم، وتزيد قدرتنا الإنتاجية. لكن الاستفادة القصوى من أشعة الشمس الطبيعية يتطلب توافر عدة عوامل إضافية. مصدر الصورةGetty ImagesImage caption قد تبعث إضاءة المصابيح الفلورية "الفلورسنت" الطولية، والتي تستخدم غالبا في المكاتب المفتوحة، شعورا بالضيق والانزعاج فبحسب كاي سرجانت، لن يؤتي التعرض لضوء النهار الطبيعي ثماره إذا ما كان المرء يحدق في جدارٍ كبير أمامه وجهه. وتقول في هذا الشأن: "هناك ترابطٌ بين هذه الأمور؛ فأنت ترغب في وجود ضوء، ولكنك تريد أن ترى كذلك مساحات خضراء، ومياها، وأجمة من الأشجار. فلكل هذه الأشياء تأثيرٌ إيجابي على الجميع تقريبا". وترى أوغستِن أن الشعور بالدفء من خلال اختيار ألوانٍ بعينها يلعب دورا فيما يتعلق بالقدرة على الابتكار والإبداع، إذا ما كنا نتحدث عن العمل في ظل وجود مصادر إضاءة اصطناعية. وتشير إلى أن الألوان التي تُشيع الشعور بالدفء، تشكل اختيارا مثاليا في تصميم مقار الشركات التي يكون من المطلوب من موظفيها العمل بشكل جماعي بشكل أكبر، لإنجاز المهام المنوطة بهم، وليس العمل الفردي، وهو ما يجعلهم بحاجة للتفكير على نحوٍ خلاّق. وتقول أوغستِن إن الإضاءة المائلة للزرقة تمثل خيارا أفضل إذا كنا بحاجة إلى التركيز أو التفكير بشكلٍ تحليلي. وقد أظهرت دراسة أخرى أُجريت في جامعة كورنيل الأمريكية أن استخدام مصابيح طاولات من تلك الموجهة إلى أعلى، والتي تعطي إضاءة مركزة غير مباشرة، يؤثر بشكلٍ أكثر إيجابية على صعيد إشعار الموظفين بالرضا وتحفيز قدراتهم الإنتاجية، وذلك بقدرٍ أكبر من التأثير الذي تُحْدِثُه المصابيح التي يتدفق منها الضوء من أعلى إلى أسفل، والتي توجد عادة في غالبية أماكن العمل المفتوحة. ارتفاع السقف ومن بين أكثر الأمور المُفاجئة هنا على ما يبدو، حقيقة أن قدر المساحة الموجودة فوق رأسٍ كل منّا قد تؤثر على الطريقة التي نفكر بها. فقد ركزت دراسة أُجريت عام 2007 على معرفة مدى تأثير ارتفاع الأسقف على قدرة البشر على القيام بالعمليات العقلية. وأظهرت أن الأسقف الأكثر ارتفاعا تؤدي إلى أن ينعم الموجودون تحتها بقدرة أفضل على التفكير الإبداعي، أما تلك المنخفضة بشكل أكبر، فتساعد على أن يؤدي المرء المهام التي تتصف بطابعٍ عملي أكثر. (اقرأ أيضا: وسائل التكنولوجيا التي تراقبنا في مكان العمل) وتقول جوان مايرز-ليفي، التي أعدت هذه الدراسة، إن اختلاف ارتفاعات الأسقف يثير في الذهن أنواعا مختلفة من المفاهيم أو الأفكار، وهي مفاهيم تؤثر بالتبعية على الطريقة التي يُعالج بها المرء المعلومات. وتضيف مايرز-ليفي: "إذا ما كان السقف مرتفعا، فإنه يُنشِّط فكرة الحرية أو عدم وجود حدود" في الذهن، بينما تنشط مفاهيم أخرى مثل الحصار والقيود إذا كان المرء تحت سقف منخفض الارتفاع.مصدر الصورةAlamyImage caption ربما يوجد سبب يحدو الناس لحب العمل في مكتبات عامة كبيرة، إذ تساعدهم الأسقف العالية الموجودة هناك على التفكير بشكل خلّاق وقد أشارت الدراسة التي نتحدث عنها إلى أبحاث أجراها الباحث إدوارد هول عام 1966، وطبّق خلالها هذه النظرية على دور العبادة. فقد لاحظ الرجل أن الكنائس الصغيرة، وهي بطبيعة الحال ضيقة ومحدودة المساحة، توحي إلى روادها بمفاهيم من قبيل الحبس أو التقييد، أما الكاتدرائيات المذهلة الفسيحة فتشكل تذكيرا بما يتسم به الكون من رحابة وانفتاح وحرية.التطبيق على أرض الواقع وتقول سارجنت إن دمج كل عناصر التصميم الخفية هذه، يعني إيجاد مجموعات متنوعة من الفضاءات بداخل كل مقر إداري، ما يسمح للعاملين فيه بأن ينعموا بالخصوصية إذا ما احتاجوا إليها، وأن يعملوا في الوقت نفسه في أماكن تمنحهم الفرصة للتفكير بشكل إبداعي وتحليلي. )اقرأ أيضا: اليابان: "حوافز مالية" لمن يغادر العمل مبكرا) فعلى سبيل المثال، يمكن أن يتضمن مقر إحدى الشركات - كما تقول سارجنت - غرفة ذات سقف مرتفع تنفذ فيها المهام ذات الطابع الإبداعي بشكل أكبر، بينما تُخصص غرفة ثانية منخفضة السقف للمهام الأخرى ذات الطابع العملي. وبالعودة إلى المقر الجديد لشركة "فاليروم" الذي تحدثنا عنه في بداية هذه السطور، فسنجد أنه يتضمن أشكالا مختلفة من الغرف التي تُخصص لأنواع متباينة من الأنشطة العملية. ورغم أن مصممي المقر لم يصلوا إلى حد التنويع في ارتفاعات أسقف الغرف، فإنهم صمموا بعضها على نحوٍ جعلها ملائمة للعمل الجماعي، بينما صُممت أخرى للمهام التي تتطلب عملا فرديا بشكل أكبر. وتقول بامبي جورج إن جدران بعض هذه الغرف طُليت بألوانٍ مختلفة لإثارة حالات مزاجية متباينة لدى من يعملون فيها. ورغم أن مساحة مكان العمل وتصميمه لا يشكلان العامل الوحيد المؤثر في تحديد قدرة العاملين على الابتكار والتفكير الخلاّق، وذلك في ظل وجود عوامل أخرى مثل الزملاء والمديرين، وكذلك مدى حماسة كل منّا للعمل، فإن طبيعة ما يحيط بك يمكن أن يعزز روح الإبداع الموجودة في داخلك. وهنا، تقول سارجنت إن وضع نباتات في زوايا الغرف ذات المظهر الكئيب في الشركات، أو تثبيت صور ملونة على المكاتب الموجودة فيها، يمكن أن يساعد على تدفق الأفكار المبدعة من أذهان من يعملون بين جدرانها. وتخلُص سارجنت للقول إن الأمر يتعلق بخلق فضاءات ذات سمات متنوعة. وتشير إلى أن مصممي أماكن العمل يسعون إلى إيجاد بيئات تزيد فيها فرص نجاح العاملين. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Capital .
مشاركة :