أكدت الولايات المتحدة الأميركية وقوفها الثابت والقوي مع الدولة العراقية في مواجهتها مع ما يسمى ب"الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش). ورأى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في احتلال هذه الجماعة لمدن وبلدات عراقية، في الشمال والغرب، بمثابة تهديد كبير، تتجاوز تداعياته العراق، لتلامس أمن واستقرار الشرق الأوسط برمته. وقال أوباما إنه أمر بإرسال ثلاث مئة عنصر من قوات العمليات الخاصة الأميركية، من أجل تقديم الخبرة للجيش العراقي في معركته مع "داعش"، وأنه لا يستبعد أي صوّر أخرى من الدعم العسكري والأمني، باستثناء إرسال قوات على الأرض. وأعلن البنتاغون أنه يأمل بأن تتمكن قوات العمليات الخاصة من تحسين وتطوير تقييمات الأجهزة الأمنية بشأن الوضع في العراق، وتقديم العون الفني الضروري للجهات العسكرية العراقية، بما يساعدها على استعادة المناطق التي أضحت تحت قبضة "داعش". وفي سياقه الأبعد، يشير الدعم الأميركي الراهن للعراق إلى التزام ثابت بأمن الخليج، الذي لا يُمكن مقاربته دون عراق مستقر. وتتصف العلاقات الأميركية العراقية بمسار طويل من الروابط والتحوّلات، السياسية والأمنية، فالولايات المتحدة لا تعتبر حديثة عهد على العراق، ولم يكن اهتمامها به، في أي مرحلة تاريخية، اهتماماً عابراً، بل جزء من خيارات جيوسياسية، كونية الطابع والامتداد. واليوم، يُمثل العراق شريكاً إقليمياً رئيسياً للولايات المتحدة، تتجاوز العلاقة به بُعدها الثنائي، لترتبط بجوهر المقاربة الأميركية للخليج والشرق الأوسط. وهناك ما يشبه الاجماع بين الأميركيين على أنه ليس من المعقول، بحال من الأحوال، التخلي عن العراق، بعد تضحيات بلغت أكثر من 4400 قتيل و32 ألف جريح في صفوف القوات الأميركية، خلال فترة الحرب الممتدة من 19 آذار مارس 2003 إلى 18 كانون الأول ديسمبر 2011. وكان وصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض مطلع العام 2009، قد مثل بداية مراجعة واسعة لمستقبل الوجود الأميركي في العراق، وفرص إعادة بناء العلاقات الأميركية العراقية على أسس جديدة. وفي العام 2011، دخل الطرفان في مفاوضات دامت أشهر حول بقاء بضعة آلاف من العسكريين الأميركيين كبعثة تدريب، لكنهما لم يتوصلا إلى حل وسط، حيث رفض العراق منح حصانة قضائية لأفراد هذه البعثة. وعلى خلفية ذلك، قرر البيت الأبيض سحب كامل القوات من العراق. وفي الثامن عشر من كانون الأول ديسمبر 2011، عبر آخر موكب للقوات الأميركية الحدود باتجاه الكويت، لينتهي الوجود الأميركي من بلاد الرافدين، بعد نحو تسعة أعوام على اندلاع حرب العام 2003. وهناك حالياً 5000 متعاقد أمني يتولون حماية موظفي السفارة الأميركية في بغداد، البالغ عددهم 11 ألف شخص. وبالنسبة لعدد من الخبراء والمحللين الأميركيين، فإنه على الرغم من المخاطر التي أثيرت بشأن سحب القوات، فإن هذه الخطوة لم تخل من مزايا بالنسبة للولايات المتحدة، أهمها: إنهاء حرب فقدت شعبيتها بين الأميركيين، ووقف النزيف البشري بين الجنود، وفسح الطريق أمام علاقات ايجابية متطوّرة مع الشعب العراقي. ورأى هؤلاء أنه بانسحاب القوات يكون الوقت قد أصبح مؤاتياً للتأكيد على أدوات جديدة لبناء علاقات أميركية عراقية، قوية ومزدهرة. وخيار كهذا، لا يرتبط فقط بعلاقة واشنطن ببغداد، بل يرمي بظلاله المباشرة على مجمل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وربما أبعد من ذلك. إن انسحاب القوات قد مثل لحظة تاريخية فارقة في العلاقات الأميركية العراقية، حرصت فيها الولايات المتحدة على التأكيد بأن شراكتها مع العراق ستبقى ثابتة وقوية. و"هذا اليوم نؤكد من جديد رؤيتنا المشتركة المتمثلة في إقامة شراكة طويلة الأمد بين دولتينا" – كما قال الرئيس أوباما. وفي التوصيف المبدئي، يُمكن القول إن العراق يقع، على صعيد التجربة الأميركية، بين حالتي جمهورية الدومنيكان واليابان. في الأولى، خرج الأميركيون دونما تحيق نتائج تذكر على الصعيد الاستراتيجي، بعد وجود امتد بين عامي 1916-1924. وفي الثانية، نسجوا تحالفاً سميكاً، أسس لمرحلة جديدة للبيئة الجيوسياسية في شرق آسيا. في هذه الوسطية، لم تفقد العلاقات الأميركية العراقية مضمونها الاستراتيجي المتقدم، والآليات الكفيلة بإدامة هذا المضمون. وقد تحقق ذلك في توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي(SFA) بين البلدين، في السابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر 2008، والتي أضحت نافذة المفعول اعتباراً من الأول من كانون الثاني يناير 2009، بعد أن صادق عليها مجلس الرئاسة العراقي في 4 كانون الأول ديسمبر 2008. وقد جاء في البند الأول، من القسم الأول، من الاتفاقية ما يلي: تستند علاقة الصداقة والتعاون إلى الاحترام المتبادل، والمبادئ والمعايير المعترف بها للقانون الدولي، وإلى تلبية الالتزامات الدولية، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ورفض استخدام العنف لتسوية الخلافات. وأشار البند الثاني، من القسم ذاته، إلى أن وجود عراق قوي، قادر على الدفاع عن نفسه، أمر ضروري لتحقيق الاستقرار في المنطقة. وعلى الصعيد الأمني والدفاعي (القسم الثالث)، قالت الاتفاقية: بأنه تعزيزاً للأمن والاستقرار في العراق، والمساهمة في حفظ السلم والاستقرار الدوليين، وتعزيزاً لقدرة جمهورية العراق على ردع كافة التهديدات الموجهة ضد سيادتها وأمنها وسلامة أراضيها، يواصل الطرفان العمل على تنمية علاقات التعاون الوثيق بينهما فيما يتعلق بالترتيبات الدفاعية والأمنية، دون الإجحاف بسيادة العراق على أراضيه ومياهه وأجوائه. وقدم تقرير، نشره البيت الأبيض، في نهاية آب أغسطس من العام 2010، طيفاً عريضاً من نماذج التعاون المدني، والأمني والدفاعي، بين البلدين، استناداً إلى هذه الاتفاقية. ولقد أعلنت الولايات المتحدة أنها ماضية في خطط تسليح وتدريب للجيش العراقي، بتكلفة إجمالية تفوق العشرة مليارات دولار. وأشار البنتاغون إلى أن الغرض من مبيعات الأسلحة للعراق هو مساعدته في الدفاع عن سيادته، ومواجهة المجموعات المتطرفة، وأن هذه الأسلحة لا تمثل تهديداً لأحد. ويشير البنتاغون، كما وزارة الخارجية، إلى أن المبيعات العسكرية للعراق، تخضع لاتفاقات تسمح للمفتشين الأميركيين بمراقبة كيفية استخدام الأسلحة، لضمان عدم انتهاك شروط البيع. ويخوّل برنامج المبيعات العسكرية الخارجية (F.M.S) الجانب الأميركي شراء الأسلحة والمعدات لوزارتي الدفاع والداخلية العراقيتين. وقد أنشئ "مكتب التعاون الأمني" في السفارة الأميركية في بغداد، ليعنى بشؤون الاستشارات والتدريب والمبيعات العسكرية. ويتبع هذا المكتب أكثر من 225 عسكرياً أميركياً، وسبعة مدنيين، تابعين لوزارة الدفاع الأميركية، إضافة إلى 530 عضواً في فريق المساعدة الأمنية، وأكثر من 4000 موظف متعاقد بدعوة من الحكومة العراقية. كما يبلغ عدد العاملين من الجيش الأميركي المتبقين في العراق حوالي 200 عنصر، يعملون لمصلحة هذا المكتب. وقد قطع العراق شوطاً أولياً على صعيد إعادة بناء قواته البرية، وشوطاً أقل على مستوى سلاح الجو، في حين لا زالت مساعيه أولية بالنسبة للسلاح البحري. وفي ذلك كله، لعبت الولايات المتحدة دوراً أساسياً، لازال مستمراً بصوّر مختلفة. وهي تمثل مبدئياً مصدر التسليح الرئيسي للقوات الأمنية والعسكرية العراقية. كما قامت بتمويل أو تغطية بعض المشتريات العسكرية، وقدمت أخرى في صورة معونات وهبات. ودخلت مع بغداد في برامج مختلفة على مستوى التدريب والإعداد العسكري، والمناورات الحربية. على صعيد التسلح الجوي، اشترى العراق من الولايات المتحدة مجموعة متنوعة من الطائرات العسكرية الحديثة، منها 12 طائرة تدريب وقتال من طراز (Cessna-172/T-41)، وسبع طائرات من طراز (Comp Air-7SL)، وعشر طائرات من طراز (ISR King Air-350)، التي تجمع بين مزايا الطائرات المسيرة والطائرات المأهولة، على مستوى المراقبة الجوية وإطلاق الصواريخ الموجهة بالليزر. كما اقتنى العراق من الولايات المتحدة 15 طائرة تدريب من طراز (PC-9)، 64 مروحية خفر خفيفة من طراز (Bell) من أجيال مختلفة، و22 طائرة نقل عسكري من طرازات (Cessna-208 Caravan)، و(C-130E Hercules)، و(King Air)، و(C-130J Hercules-2). وشملت الأسلحة الأميركية الجديدة التي اشتراها العراق 75 صاروخاً من نوع "هيل فاير". وهذه الصواريخ يجري تثبيتها أسفل أجنحة طائرات صغيرة من نوع "سسنا"، ثم تطلق على المواقع المستهدفة. وشملت الأسلحة الجديدة أيضاً استطلاع مسيّرة من نوع "سكان إيغل"، وثلاثة مناطيد من نوع "أيروستات" المزوّدة بالمجسّات، وثلاث مروحيات استطلاع، كما تقرر إرسال 48 طائرة استطلاع بدون طيّار من نوع "ريفن"، قبل نهاية العام 2014. ومنذ العام 2005 مرّر البنتاغون للحكومة العراقية طلبيات عسكرية تعادل قيمتها 10,5 مليارات دولار تقريباً، كما تقدّم العراق بطلبات أخرى من شأنها رفع المبلغ، في حالة الموافقة عليها، إلى نحو 25 مليار دولار. وفي 27 كانون الثاني يناير 2014، أبلغت ادارة الرئيس أوباما الكونغرس بخطط بيع مروحيات عسكرية هجومية للعراق من طراز "أباتشي"، وذلك بعد تقديم ضمانات للمشرعين بشأن كيفية استخدامها. وقد أعلنت وكالة التعاون الدفاعي والأمني أنها أبلغت الكونغرس باحتمال بيع 24 مروحية من هذا الطراز للدولة العراقية. ويرى الخبراء الأميركيون إن إبقاء القوات المسلحة العراقية معتمدة على نظم التسليح الأميركية سيعطي واشنطن قوّة تأثير لعقود آتية من الزمن، كما سيعزز العلاقة التي نشأت خلال فترة الوجود الأميركي. ومن الواضح الآن أن الرئيس أوباما يسعى لتثبيت رؤية بعيدة المدى للشراكة الأميركية مع العراق، وأنه يحظى في ذلك بدعم الديموقراطيين والجمهوريين، كما في تحوز سياسته هذه على دعم وتأييد الرأي العام الأميركي. إن دول المنطقة معنية، من ناحيتها، بدعم ومساندة جهود الرئيس أوباما، والوقوف مع مساعيه الرامية لتعزيز عوامل القوة والمنعة لدى الدولة العراقية، لتكون قادرة على تحقيق استقرارها الوطني، الأمر الذي من شأنه تجنيب الشرق الأوسط المزيد من التوترات.
مشاركة :