في سبعينيات القرن العشرين، زار الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، الصين، وأعاد العلاقات الأميركية الصينية، ليحقق بذلك انجازاً دبلوماسياً، كان الأهم من نوعه في ذلك القرن، لكونه أعاد رسم خارطة العلاقات الدولية، وأثر عميقاً في مسارها اللاحق. اليوم، تبدو الولايات المتحدة بصدد قصة مشابهة، على صعيد علاقتها بإيران، لا ترتقي إلى التجربة الخاصة بالصين، لأنها لا تدور بين دولتين كبريين، لكنها تحمل بعض إيحاءاتها، لأن النجاح في هذه التجربة يعني تغيير المشهد الجيوسياسي لأحد أهم أقاليم العالم حيوية، وهو الشرق الأوسط. هذه الرؤية، حملها الرئيس باراك أوباما، منذ حملته الانتخابية الأولى عام 2008، فوعد بإطلاق حوار أميركي إيراني مباشر، حول مروحة عريضة من القضايا الثنائية والإقليمية. ولقد بدأ أوباما الخطوات الأولى في هذا المسار، ولقي الكثير من الترحيب الدولي. بيد أن مساعي أوباما انتكست في صيف العام 2009، إثر الضجة التي أثيرت حول انتخابات الرئاسة الإيرانية. وبعد أربع سنوات، عاد الرئيس الأميركي وأطلق المسار، ليحقق ما بدا أنه نجاح فوري، أو لنقل بعضاً من النجاح المباشر والسريع. وفي السابع والعشرين من أيلول سبتمبر 2013، أجرى أوباما اتصالاً هاتفياً مع الرئيس الإيراني الجديد، الشيخ حسن روحاني، هو الأول بين رئيسين أميركي وإيراني منذ العام 1979. ومن وجهة نظر الرئيس أوباما، فإن الشكوك بين الدولتين كبيرة، بدرجة يتعذر معها تجاوز تاريخهما المضطرب بين عشية وضحاها، وقد يتضح أن العقبات كبيرة للغاية، "لكنني أعتقد جازماً أنه لا بد من اختبار المسار الدبلوماسي". ويشير أوباما إلى أن حل الأزمة النووية الإيرانية، والتوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني، يأتيان على رأس أولوياته في الشرق الأوسط. وهو يؤمن بأن تسوية هاتين القضيتين يمكن أن تساهم في تحقيق استقرار إقليمي بعيد المدى، طال انتظاره. وأياً تكن السياقات، نحن اليوم بصدد مشهد دبلوماسي غير مسبوق، لا يرتبط بالعلاقات الأميركية الإيرانية وحسب، بل هو يتصل بالضرورة بمقاربة الولايات المتحدة لسياستها في عموم الشرق الأوسط، فضلاً عن أفغانستان وآسيا الوسطى. على صعيد مستقبل حل الخلافات الخاصة بالملف النووي الإيراني، في ضوء المعطى السياسي الجديد، توقع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن يتم ذلك بسرعة نسبية. ورأى كيري، في مقابلة مع قناة (CBS) في 29 أيلول سبتمبر 2013، إن الجهود الدبلوماسية المكثفة قد تسفر عن اتفاق ضمن الإطار الزمني، الذي أعلن عنه الرئيس الإيراني، والذي يتراوح بين ثلاثة وستة أشهر. وفي الأصل، اتجهت إدارة الرئيس أوباما مبكراً للتأكيد على أولوية المسار الدبلوماسي، كسبيل لحل الأزمة الخاصة بملف إيران النووي. وسبق أن حذر أوباما من وصول الأزمة إلى طريق مسدود، وأشار إلى أن الدول عادة ما تميل إلى التخلي عن طموحاتها بتطوير أسلحة نووية من تلقاء نفسها، إثر مراجعات استراتيجية تقوم بها، وليس نتيجة لعمل عسكري يوّجه ضدها. وضرب مثالاً على ذلك بليبيا وجنوب أفريقيا. وهناك من الباحثين الأميركيين من يرى أن الشعب الأميركي، باختياره أوباما، قد صوت للسلام، ومنع حرب ثالثة مع المسلمين خلال ما يزيد قليلاً على عقد من الزمن. ويرى هؤلاء إن الخطر بدا واضحاً من أن المرشح الرئاسي السابق، ميت رومني، كان سيأخذ الولايات المتحدة إلى حرب مجنونة مع إيران. وقد أكد أوباما على أن الخيار العسكري لا أرجحية سياسية له، وأن عواقبه غير المرغوب فيها، قد تفوق ما يحققه من نتائج فعلية أو مؤكدة، لناحية وقف البرنامج النووي الإيراني، أو منع تقدمه. وفي الولايات المتحدة، كما في أنحاء أخرى من العالم، يختلف الخبراء حول طبيعة الأثر الذي يُمكن أن تخلفه حملة قصف جوي على المنشآت النووية الإيرانية. وتتقاطع معظم التقديرات، التي أجراها علماء أميركيون، في القول بأن حملة من هذا القبيل لن تكون ذات نتيجة حاسمة، فإيران ستحتفظ برأسمالها البشري، وقاعدة الإنتاج الأساسية، وستكون قادرة على إعادة بناء برنامجها النووي. بل إن العمل العسكري قد يصبح عامل تحفيز لامتلاك السلاح النووي، وتوحيد الجبهة الداخلية خلف خيار من هذا القبيل. وفي الأصل، فإن الخيار العسكري غير مجمع عليه داخل الولايات المتحدة، وتفوق الأصوات المعارضة له، على نحو كبير، تلك الداعمة له. من جهة أخرى، هناك ما يشبه الإجماع بين الخبراء الأميركيين على أن العقوبات الاقتصادية، التي فرضت على إيران على خلفية برنامجها النووي، قد سببت لها إيذاءً شديداً، لكنها لم تضغط على سلطاتها إلى النقطة التي تصبح فيها مضطرة لتقديم تنازلات جوهرية. ويرى غالبية هؤلاء أن انخراط الولايات المتحدة في محادثات ثنائية مباشرة مع إيران يُمثل الطريق الأفضل لخلق انفراجة في الأزمة القائمة. وفي العاشر من أيلول سبتمبر 2013، خففت الولايات المتحدة عقوباتها على إيران لتسهل على وكالات الإغاثة الإنسانية العمل في مناطقها المختلفة، وكذلك من أجل إتاحة التبادل الرياضي بين الأميركيين والإيرانيين. وتعني هذه الخطوة، التي أعلنت عنها وزارة الخزانة الأميركية أن المنظمات غير الهادفة للربح، والتي تركز على الإغاثة من الكوارث، والحفاظ على الحياة البرية وحقوق الإنسان، وبرامج أهلية ومدنية مماثلة، لم يعد يتعين عليها التقدم للحصول على إذن خاص لدخول إيران وممارسة أنشطة فيها. ويسمح هذا التطوّر للرياضيين الإيرانيين والأميركيين بدفع أموال مقابل المبادلات الرياضية، والمباريات بين البلدين، دون التقدم بطلب خاص بذلك. ورأى البيت الأبيض أن هذا التحرك "يظهر المزيد من التزام هذه الإدارة بتعزيز العلاقات بين الشعبين الإيراني والأميركي". ويحق للرئيس أوباما، من الناحية القانونية، أن يسقط معظم العقوبات لمدة 120 يوماً، ثم 120 يوماً أخرى، إذا سارت المفاوضات مع إيران بشكل جيد. ومن ناحيتهم، يملك المشرعون الأميركيون سلطة رفع أي من العقوبات إذا رأوا أن إيران تقدم تنازلات معينة، ذات صلة ببرنامجها النووي. وفي إطار المساعي الأميركية والدولية المبذولة حالياً، قد يجري التوصل، كمرحلة أولى، إلى اتفاق متواضع، يكون في شكل تفتيش، وإبطاء للتخصيب، مقابل تقليص العقوبات. ويرى البيت الأبيض أن على إيران إثبات توجهاتها الجديدة عبر فتح منشآتها النووية على الفور أمام المفتشين، وإبقاء جهودها لتخصيب اليورانيوم عند مستويات متدنية، يصعب أن تكون ملائمة للاستخدام العسكري. وتجري إيران محادثاتها الخاصة بالملف النووي ضمن مسارين منفصلين: الأول، مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. والثاني، مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا. وعلى الرغم من هذا الانفصال الإجرائي أو التقني، فإن الصلة تبقى وثيقة بين ما يدور في الحالين. ولدى إيران عدة مراكز لتخصيب اليورانيوم، ومنشأة واحدة على الأقل قادرة على معالجة البلوتونيوم. كما تسلمت إيران من روسيا، في 23 أيلول سبتمبر 2013، عمليات تشغيل محطة بوشهر للطاقة النووية، الواقعة في جنوب البلاد. وقامت الوكالة الفيدرالية الروسية للطاقة الذرية (روساتوم) ببناء هذه المحطة تحت مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وسوف يعهد بها إلى الشركة الإيرانية لإنتاج وتطوير الطاقة الذرية. وقد تعهد الروس بإمداد المحطة بالوقود لمدة عشر سنوات، وباستعادة الوقود المستنفذ لإعادة معالجته. وسوف توّسع إيران محطاتها للطاقة النووية، مع بناء محطة ثانية في بوشهر، يتولى الروس تشييدها. وفي الأصل، يقوم نظام معاهدة حظر الانتشار النووي على ثلاثة أعمدة، هي: منع الانتشار، ونزع السلاح النووي، والاستخدامات السلمية للطاقة النووية. وتفترض المعاهدة عملية تشييد كل من هذه الأعمدة عبر سلسلة من الخطوات المتماثلة من قِبَل الدول التي تمتلك أسلحة نووية، والدول التي لا تمتلك هذه الأسلحة. وقد جرى في أيار مايو من العام 1997 إقرار البروتوكول الإضافي النموذجي من جانب مجلس محافظي الوكالة، وأصبح بمقدورها القيام، من خلال هذا البروتوكول، بعمليات تفتيش أكثر فعالية، من أجل ضمان عدم تحوّل المواد والمرافق النووية عن أغراضها السلمية. وما يُمكن قوله خلاصة، في سياق هذا التفصيل، هو أن الانفتاح الأميركي على إيران قد مثل تطوّراً بارزاً في مناخ السياسة الدولية. وهو يترجم، في أحد أبعاده، حاجة إقليمية، جلية وواضحة.
مشاركة :