العودة حيا لا يمكن للخلود تخفيف عذابات البشر البحث عن سرّ الخلود والأبدية شغل شاغل للبشر على مرّ السنين، فهاجس البحث عن الاستمرار والديمومة ومواجهة الفناء دفع الإنسان إلى خيالات واسعة جامحة من جهة، ومن جهة أخرى جعله يسعى إلى قراءة علوم المستقبليات علّها تشفع من خلال الأبحاث والدراسات والتجارب العلمية في العثور على أسباب أو ترياق الخلود الذي تنشده البشرية.العرب طاهر علوان [نُشر في 2017/07/17، العدد: 10694، ص(16)]معاناة العودة إلى الحياة خاضت العديد من أعمال الخيال العلمي في إشكالية الخلود الذي تنشده البشرية وصولا إلى ما عُرف بالاستنساخ وإيجاد كائنات نصف بشرية نصف روبوتية أو أخرى رقمية أو ترتكز على ما يُعرَف بالذكاء الاصطناعي، كلّ هذا رافق الخيال العلمي سواء الأدبي أو السينمائي، ولنا أن نتذكر أفلاما كثيرة من هذا النوع، منها “إيكس ماشينا” و”الشرطي الآلي” و”النجمي والفاني”، و”أنا روبوت” و”روب كوب” و”متسابق المتاهة” و”ترون والجدار اي” وغيرها من الأفلام التي امتدّت على مرّ تاريخ السينما. العائدون إلى الحياة هم موضوع آخر من موضوعات الخيال العلمي كما هي الحال في فيلم “العودة حيا” للمخرج الإسباني ماتيو جل، حيث الثيمة الأساسية تتعلق بالخلود من جهة والوصول إلى ما ظلت البشرية عاجزة عن الوصول إليه لقرون ألا وهو استنساخ البشر في المختبرات. مارك (الممثل توم هوغز) شاب يعاني من أعراض مرضية ليفاجأ بأنه مصاب بداء السرطان وأن أمله في العيش لا يتعدى عاما واحدا، مما يقلب حياته رأسا على عقب، ويحطم أحلامه وحياته الاجتماعية محتارا ما عساه أن يصنع خلال ذلك العام مفارقا حبيبته وزوجته ناعومي (الممثلة أونا تشابلن). الفيلم يتميز ببناء سردي محكم وتطور في البناء الدرامي يستند إلى حوار فلسفي وفكري وإنساني عميق ما هو إلا استذكارات ولهذا يقرر مغادرة الحياة طوعًا بالدخول في برنامج علمي لتجميد البشر عقودا مقبلة، ثم إعادتهم إلى الحياة بعد إجراء تجارب الاستنساخ عليهم واستبدال أعضائهم المعطوبة بأعضاء أخرى. ها نحن مع مارك حيّا في عام 2084 وقد خرج توّا مما يشبه الغيبوبة في مختبرات عالية التطور يحيط به فريق عمل من أطباء وممرضين وهم يرصدون على شاشات شفافة كل عضو من أعضائه المستنسخة التي لا يقوى على استخدام أي منها في البداية فضلا عن العجز عن المشي، لكن كلّ شيء سيتطور لاحقا وسيجد مارك نفسه كائنا مستنسخا للمرة الأولى في تاريخ البشرية. يحاول مارك أن يجد نفسه في الحال التي هو فيها فضلا عمّا كان عليه، التشويش في الذاكرة قاتل، هنالك ثغرات، لكن لا يهم فالأطباء في ذلك الزمان يرون أن لا داعي إلى الذاكرة أصلا وبإمكان المرء أن يعيش من دونها، لا عاطفة ولا إشكالية تزاوج في حينه وإنما هي حبّة دواء تتيح للمرء أن يمارس حياته البيولوجية عند الحاجة فقط. لكنّ الذاكرة المشوشة والمضطربة سرعان ما ستكتسب شكلا آخر من العذابات ساعة أن يتم تعزيز عقل مارك بجهاز يعيد إليه ذكرياته، مرورا بطفولته وحياته مع حبيبته ناعومي وحنينه الجارف إليها، ولهذا يعجّ الفيلم باللقطات التي تعود إلى الماضي الشخصي. يتميّز الفيلم ببناء سردي محكم وتطوّر في البناء الدرامي يستند إلى حوار فلسفي وفكري وإنساني عميق ما هو إلا استذكارات وأفكار مارك وهواجسه ويومياته، أفكار غزيرة ومؤثرة تتعلق بالجدل المحتدم عن الحياة والموت والعاطفة والجسد والروح، وهو عنصر جمالي وحلّ إخراجي موفّق في التعبير عن هواجس الشخصية والتفاعل معها. ثنائية الحياة/ الموت تحضر بقوة في الفيلم وتتحول إلى إشكالية تطارد مارك؛ فهو لا يشعر بمعنى لحياته الجديدة على الرغم من محاولة الممرضة إليزابيث (الممثلة شارلوت لي بون) إنعاشها بقدر من العاطفة وصولا إلى المتعة الجسدية، لكنّ ذلك لا يزيد مارك إلا إحساسا بالعجز والوحدة واللاجدوى، ولهذا لا يتحول الموت إلى هاجس مخيف ولا إلى باعث على القلق بل هو حقيقة محدقة، ومارك يفلسف الإحساس بها في سياق انثيال ذكرياته الماضية. على الرغم من أنّ الفيلم ظلّ محدّدا مكانيا في إطار المستشفى والمختبرات التجريبيّة، إلا أن تحديد المكان لم يضعف شيئا من الأحداث، بل كان هنالك حديث عن الخارج، توصيف من طرف الأطباء لما آلت إليه الحياة بعد عدة عقود على الموت السريري لمارك ثم عودته. لكن ما عدا ذلك لم تجر تقوية أحداث الفيلم بحبكات ثانوية إضافية تساهم في التصعيد الدرامي، وبقينا في تلك الدائرة المحكمة التي تطبق على مارك وترتبط بمصيره، حيث كان الانتقال في الزمان والمكان محدّدا في الذكريات المتلاحقة والمكرّرة أحيانا. يبرز التحوّل الدرامي ساعة أن يعثر مارك على أرشيف مصوّر على شرائح رقميّة صغيرة يرى فيها ما جرى للذين من قبله ممن أجريت عليهم تجارب الاستنساخ، العذابات التي واجهوها وهم يموتون موتا بشعا في ما يشبه حالات الصرع وخروج الجسد عن السيطرة. وهو ما يزيد من عذابات مارك مستنتجا أنه لم يكن إلا عيّنة للتجارب رغم دفاع الطبيب ويست (الممثل باري وارد) عن مشروعه، وأنه يشعر بتأنيب الضمير لجهة الضحايا، إلا أن الوصول إلى كائن بشري مستنسخ يقود الإنسان إلى الخلود يستحق تلك التضحيات، لكنّ ذلك لن يشفع لمارك بل يدفعه إلى الانتحار، للخروج من مأزق اللاحياة واللاممات الذي وجد نفسه فيه.
مشاركة :