أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة يطلق شبه نداء تربوي لتحديث الفلسفة بالمغرب وإعادة الاعتبار لها على غرار موقعها المميز في الجامعات الغربية الكبرى.العرب محمد بن امحمد العلوي، حسونة المصباحي [نُشر في 2017/07/19، العدد: 10696، ص(15)] تكريم المفكر محمد سبيلا جعل من الدرس الفلسفي حاضرا بقوة على مدار اليوم بأكمله ضمن خيمة الإبداع، في دورتها السادسة، ضمن فعاليات الدورة التاسعة والثلاثين لمنتدى أصيلة الثقافي الدولي حيث تم الاحتفاء بالمفكر المغربي. واجتمعت تحت خيمة الإبداع مجموعة من الأكاديميين والمفكرين والروائيين العرب والمغاربة، جمعتهم بالمفكر المحتفى به علاقة الأستاذ بتلميذه أو الزمالة أو قضايا الهم الفكري، واتسمت تدخلات كل هؤلاء بالعمق والأصالة سواء بتقديمهم لشهادات في حق الرجل أو بمحاولاتهم الحثيثة إماطة اللثام عن جوانب من فكره ومشروعه الفلسفي وبحثه في مفهوم الحداثة بكل تدخلاتها في حياة الإنسان والمعرفة والطبيعة. إعادة الاعتبار في افتتاح ندوة “الدرس الفلسفي وسؤال الحداثة”، صبيحة يوم الأحد 16 يوليو 2017، قال محمد بن عيسى، أمين عام منتدى أصيلة، إن الاحتفاء بالمفكر المرموق محمد سبيلا “متعة فكرية في حد ذاتها. فقد راهن هذا الأكاديمي الذي تربت على دروسه ومحاضراته القيمة أجيال وأجيال، على الفكر للنهوض بالمغرب ثقافيا، وفتح الأبواب أمامه لكي يجد لنفسه مكانا في الحضارة الحديثة”. ولفت بن عيسى إلى أن سبيلا كان أحد السباقين إلى إدماج الفلسفة وإبراز أهميتها لفهم مكونات وإشكاليات المجتمع المغربي من الداخل، ما أفضى بهم إلى استيعاب وفهم طبيعة القيم التي تتحكم في مسار ينشد التقدم والتعاطي مع قضايا العصر. ويظن محمد بن عيسى أن سبيلا أحسن الاختيار باهتمامه بالتحديث والعقلانية في نشاطه الفلسفي، فالعقلانية حسب بن عيسى هي العملة الصعبة التي يحتاج إليها الفكر الإنساني في هذا الزمن الصعب. وأطلق أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، شبه نداء تربوي لتحديث الفلسفة بالمغرب وإعادة الاعتبار لها على غرار موقعها المميز في الجامعات الغربية الكبرى حيث تتصدر الدراسات الفلسفية التي لا تستقيم حداثة وعقلانية دون العودة إلى جذورها.المشاركون في الندوة أشادوا بالمكانة الرفيعة التي يحتلها محمد سبيلا في كوكبة المفكرين التنويريين العرب مكانة فكرية أشار الباحث والناقد شرف الدين ماجدولين، منسق ندوة “الدرس الفلسفي وسؤال الحداثة”، إلى أن الدكتور محمد سبيلا “ينتمي إلى الرعيل الأول من المفكرين والأكاديميين الذين ارتبطت لديهم الثقافة والفكر بالنضال من أجل التحرر والتحديث والديمقراطية وتحقيق نهضة وطنية شاملة”. وأضاف ماجدولين “يعد اختيار خيمة الإبداع بموسم أصيلة الثقافي الدولي التاسع والثلاثين تكريم الأستاذ محمد سبيلا، بمثابة تكريم لجيل من الأعلام المغاربة في حقل الفلسفة من الذين أعلوا قيم العقلانية ومهدوا الطريق للحداثة التي أسست للمغرب المعاصر، وفي تكريمه والوفاء له وفاء لهذا الوطن وإعلاء قيم الانتماء إليه”. وفي شهادته، نوه الروائي مبارك ربيع بالدور الفكري الذي لعبه محمد سبيلا بهدف ترسيخ العقلانية والتنوير في المغرب على مدى ما يزيد على الأربعين عاما، متصديا بحزم وشجاعة للتيارات الأصولية الداعية إلى القطيعة مع حضارة العصر، والرافضة للتفكير الفلسفي باعتباره مناهضا للدين، ومشككا في اليقينيّات، وداحضا لها. “استمرار العلاقة وأبعادها المختلفة وارتباط شقيها الإنساني مع العلمي والثقافي من شأنه أن يلقي بعض الأضواء على جوانب وأبعاد من شخصية وفكر محمد سبيلا”، يقول الروائي المغربي مبارك ربيع. وأضاف ربيع قائلا إن محمد سبيلا بدأ حياته مناضلا يساريا في صفوف الاتحاد العام لطلبة المغرب. وعند تخرجه من الجامعة، مارس النضال السياسي بطرق مختلفة، ثم تخلى عن ذلك ليركز جهوده على البحث والدرس، وإعداد أجيال من المثقفين العقلانيين. ويرى الروائي أن سبيلا يبقى في نهاية المطاف “منتج معرفة متميّزة”، ساهمت إلى حد كبير في بقاء السؤال الفلسفي قائما رغم العراقيل التي واجهته، وتواجهه راهنا في ظل تنامي الأصوليات القاتلة والهدامة. “سبيلا هو الآن وبعد كل هذه السنوات من التراكم والعمق يمثل مدرسة لا مجرد مرجعية، مرجعية لا غنى عنها في تناول مفهوم الحداثة وتياراتها وأبعادها ومظاهرها المختلفة”، يقول ربيع. وفي مداخلته القيمة، نوه نورالدين أفاية بالدور الطلائعي الذي لعبه محمد سبيلا في بروز حركية فكرية لافتة في نهاية التسعينات من القرن الماضي، رافقتها وساندتها محاولات جديدة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وفي الكتابة الروائية، كما في الموسيقى والسينما والمسرح. كل ذلك يدل، بحسب نورالدين أفاية، على أن المغرب يعيش مرحلة مخاض جديدة تتميز بطموح إلى الخروج من حالة الركود المعرفي والفكري. وقال أفاية إن محمد سبيلا تشبع بالفكر الفلسفي الغربي من ديكارت إلى جان بودريار وجيل دولوز وجاك دريدا، مرورا بديكارت، وسبينوزا، وهيغل، وماركس، ونيتشة، لينحت لنفسه منهجا فلسفيا يقوم على ضرورة إحياء الفلسفة في عالم عربي يعيش قطيعة معها تكاد تكون مطلقة. لذلك لم يكتف محمد سبيلا بالتعريف بكبار الفلاسفة والمفكرين الغربيين، بل ترجم نصوصا وآثارا فلسفية لكي تسترجع اللغة العربية قدرتها على هضم المفاهيم الفلسفية الجديدة، وامتلاكها.محمد سبيلا ينتمي إلى رعيل من المفكرين الذين ارتبطت لديهم الثقافة والفكر بالنضال من أجل التحرر والتحديث لا يخفي محمد سبيلا رهانه على الحداثة واختياره لها فكريا وليس عرضيا، فهو لا يرى أن هناك سبيلا إلى التخلص من التقليد والتراث بإحداث قطيعة حاسمة معه. وفي هذا السياق يقول محمد الشيخ، الأستاذ الباحث في الفلسفة المعاصرة بجامعة الدار البيضاء، إن استحالة التخلص السريع من التراث لا يعني إحياءه بمجرد اللجوء إلى طباعة كتب التراث وإنما يتعلق الأمر بالإقرار بصعوبة التعامل معه تعامل التغافل عنه وتجاهله. ويضيف الشيخ أن محمد سبيلا يقر ضد من يستسهل أمر القطيعة ويستعجلها بأن التراث يسكننا، ويسكن مخيلتنا ولغتنا وهمومنا اليوم ووجداننا، وبالنتيجة فكل نهضة وحركة لا بد أن تمرّا عبر التراث. ولهذا يقول محمد الشيخ إن الحداثة المرجوة عند سبيلا يجب أن تنبع من داخل الثقافة نفسها. لم يسلك سبيلا في موقفه من مسألة الحداثة بعامة وصلتها بالتقليد أو التراث بخاصة، كما يؤكد الباحث محمد الشيخ، طريقا قاطعا مع الإرث أو غارقا ومنغلقا فيه، بل كان مفكرا متوازنا بين الضفتين. وقد أشاد بقية المشاركين في الندوة المذكورة بالمكانة الرفيعة التي يحتلها محمد سبيلا في كوكبة التنويريين العرب الذين سعوا ويسعون جاهدين لبعث حركة فكرية تعيد إحياء المشروع الإصلاحي الذي جاءت به حركة النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهم يعملون على أن تكون هذه الحركة قادرة على مواجهة التيار الرجعي الذي اكتسح العالم العربي، متغلغلا في الأوساط الشعبية، وفي الجامعات، والنقابات المهنية، وفي الجمعيات الرياضية، وغيرها. الحداثة والأصوليون الجانب الآخر الذي ركز عليه المشاركون هو أن الحداثة التي أولاها محمد سبيلا اهتماما كبيرا في بحوثه وترجماته، لم تتمكن رغم الجهود الكبيرة التي بذلت خصوصا في المغرب وتونس ومصر ولبنان من أن تتجذّرَ في المجتمعات العربية. ويعود ذلك إلى هيمنة الدين بنزعته الأصولية والسلفية على الحياة الاجتماعية والثقافية في البلدان العربية. وهي هيمنة تكاد تكون في غالب الأحيان مطلقة بحيث لا تترك لأي فكر آخر مجالا ليشهد الانتشار والرواج. ثم إن هذه الحداثة “داهمت”، بحسب تعبير محمد سبيلا، المجتمعات العربية لا لتحررها من ماضيها، وإنما لكي تصبح ذريعة للعودة إليه، والنبش في قبوره المظلمة بحثا عن المزيد من الأوهام والخرافات والأباطيل. ويرى محمد الشيكر، أستاذ جامعي في الفلسفة والجماليات بالرباط، أن سبيلا يدرك أن الحداثة ليس بمقدورها أن تمحو بجرة قلم ظلال الماضي وميتافيزيقا التراث، كما أن التقليد لا يستطيع صد جاذبية الحداثة وحركتها المتدفقة التي تغمر القيم والسلوك. وفي مداخلته حول إشكالية العلاقة بين الأصولية والحداثة في فكر محمد سبيلا اعتبر محمد أندلسي، الأستاذ الجامعي في الفلسفة المعاصرة بجامعة فاس، أن الحركات الأصولية الإسلامية تتخذ عند هذا المفكر صورة حركات مضادة لتيار التاريخ الحديث، ومعارضة له على كافة المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها. ويرى أندلسي أن هناك نسبية في حكم محمد سبيلا على الحركات الأصولية، ويدعم هذا الرأي من خلال تحليل سبيلا للظاهرة بالقول إن الحركات الأصولية هي رد فعل ثقافة تقليدية ضد الحداثة كحضارة غازية وثقافة استئصالية للثقافات الأخرى. أما الكاتب التونسي حسونة المصباحي فقد أكد في مداخلته أن هيمنة الأصولية في المغرب وتونس وغيرهما من البلدان على الحياة الاجتماعية والثقافية حالت دون تجذر الحداثة، حيث أن هيمنة تلك الأصوليات الدينية تكون مطلقة ولا تترك لأي فكر آخر مجالا ليشهد الانتشار والرواج. في حوار أجري معه، عبر محمد سبيلا عن هذه الردة قائلا إنه منذ سبعينات القرن الماضي، وتحديدا منذ هزيمة 67 واندلاع الثورة الإيرانية دخل العرب في حركة غيبية تاريخية مناهضة لمرحلة الحداثة. فكأن هذه المجتمعات التقليدية وهذه الثقافات التقليدية بحسب رأيه، تدافع عن نفسها، وتنتقد الحداثة محاولة التأكيد بأنها ليست طريقا سالكا وأنها لا تقود إلى حل المشاكل. أمّا الجانب الآخر الذي أشار إليه المشاركون فهو أن مفهوم الحداثة عند العرب ظلّ حتى هذه الساعة غائما ومُلْتبسا. فإن كان هذا المفهوم يعني عند النخب الفكرية ما يتأسّس على النقد الجذري للبنى التقليدية بهدف خلخلتها وتقويضها، وطرح الأسئلة التي ترجّ وتزلزل المسلّمات واليقينيّات، وبلورة رؤى تتيح للإنسان تحقيق طموحاته في التقدم والحرية، وفي حياة أفضل، فإنه يعني عند الأصوليين شيئا آخر يتعارض مع هذا المفهوم تعارضا مطلقا. فبالنسبة إلى الأصوليين، هناك وجهان للحداثة؛ الوجه الأول هو الوجه الفكري والفلسفي. فكر حداثي وهذا الوجه مرفوض رفضا تاما من جانبهم لأنه يتناقض مع الدين، ومع القرآن، كتاب الله المانع الجامع. أما الوجه الثاني المتمثل في الجانب التقني وفي المنجزات التكنولوجية الهائلة التي تحققت مثل التلفزيون، والهاتف الجوال، والإنترنت فهو مُحبّب ومُرحّب به. السبب في ذلك يعود إلى أن هذه الوسائل والأدوات التكنولوجية تتيح للأفكار الأصولية الرواج والانتشار، وتوفر للأصوليين القدرة على التواصل، وعلى اختراق الحدود بين الدول والقارات، وعلى كسب المزيد من الأنصار. لذلك نعاين أن حركات أصولية متشددة ورافضة للغرب ولكل فكرة قادمة منه، مثل”القاعدة” و”داعش” وغيرهما، هي الأكثر استفادة من وسائل الاتصال الحديثة سواء في نشر أفكارها وأدبياتها، أو في كسب أنصار جدد، أو في تدبير العمليات الإرهابية. وفي نهاية الندوة ألقى محمد سبيلا كلمة مختصره لكنها بليغة، شكر فيها المشاركين، مشيرا إلى أنه ينتمي إلى المدرستين المغربية والتونسية اللتين ظهرتا في الستينات من القرن الماضي، مانحتين الحركات التنويرية والإصلاحية ، وحركات التحرر الوطني القدرة على الثبات في النضال من أجل التحرر والتقدم. ففي رأيه المدرسة المغربية في تعاطيها مع الحداثة تميزت بالكثير من العقلانية وأحيانا بالراديكالية وهو ما ميزها عن الكثير من المحاولات في دول عربية أخرى. كما أشار سبيلا إلى أن هناك مدرستين فلسفيتين حداثيتين في العالم العربي؛ المدرسة التونسية والمدرسة المغربية. أما المدرسة المصرية الأم فقد أصابها نوع من التراخي والسورية حصل فيها نوع من التباطؤ. وما يميز كليهما هو أن المدرسة الفلسفية التونسية متميزة بعطاءاتها وشموليتها وهي مرتبطة بمشروع التحديث الذي عاشته الدولة التونسية ورعته بشكل مباشر أو غير مباشر، أما المدرسة الفلسفية المغربية فعصامية وتكونت بمجهودات فردية وتلقائية.
مشاركة :