في البدء ما من شك أنّ الإصلاح مطلب ضروري لكل المجتمعات. وفي المملكة لم يكن الإصلاح من المحظورات كما تفعل بعض الدول البوليسية، بل الإصلاح أمر مطروح في تصريحات المسؤولين. هذا وقد طُرح عدد من المشاريع الحكومية للإصلاح. هذا يعني أن الإصلاح من حيث المبدأ هو أمر قائم ولا يحتاج إلى كثير مزايدة من هذا الطرف أو ذاك. غير أن قيمة الإصلاح أصبحت تستخدم في التوظيف الأيديولوجي الحركي، فتجيّر هذه العبارة للتوغّل الحركي على أجيالٍ من الشباب، لتستقطب من بُعد من أصحاب الأجندة والمشاريع السياسية ببغية إحراج الدولة ومستعينين بدعمٍ من هذه الدولة أو تلك عبر إقامة أنشطةٍ حركية لتحقيق مآرب جماعة سياسية أو أوهام وأحلام شخصية، بعيداً عن مصالح المجتمع. في كلمة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك "قد رأينا أن في عالمنا اليوم بعض المخدوعين بدعوات زائفة ما أنزل الله بها من سلطان، واختلطت عليهم الأمور فلم يفرقوا بين الإصلاح والإرهاب، ولم يدركوا أنها دعوات تهدف إلى خلخلة المجتمعات بتيارات وأحزاب غايتها زرع الفرقة بين المسلمين، ونسوا أن مقاصد هذا الدين العظيم إنما هدفت إلى أن يكون المجتمع الإسلامي أنموذجا للترابط والصفح والتسامح". خلال العقود الماضية ارتبطت الحركات الأيديولوجية بتوظيف الطموحات الاجتماعية المتاحة حكومياً ورسمياً من أجل ترويج المشاريع السياسية الضارة والتي غالباً ما تكون منساقة وراء دعمٍ خارجي قريب أو بعيد. وما كشفت عنه ارهاصات أحداث المنطقة عن ارتباطٍ بين مشاريع بعض الحركيين، ومشاريع خارجية أو قوى إقليمية لا تريد للمملكة خيراً إلا إحدى تلك التجلّيات لتوظيف دعاوى الإصلاح والحقوق المتسترة برداء الدين بحثاً عن الزعامة والنفوذ السياسي، وحين جاءت موجة ما سُمّي ب"الربيع العربي" انكشفت أوراقهم التي أخفوها خلال العقد الماضي، فلم ينجهم الحذر من قدر الانكشاف على الملأ، من خلال التدبير للتدخلات السياسية أو التمهيد للتجييش الشعبي بما لا يضيف للمجتمع إلا الضرر الصريح. كان للثورات والاحتجاجات العربية رومانسية غريبة، انسحر بها البعض، وكانت مبهجةً للحركيين، سواء من التيارات الإخوانية ومن لفّ في فلكها، أو الشيوعية واليسارية، داعبت أحلامهم بقايا الشعارات القديمة، أيقظت لديهم رومانسية التغيير الذي يحلمون به، سالت الدموع، وخرجت الأهازيج. بعض الذين انساقوا في بداية الأمر إلى تلك الثورات عرفوا فيما بعد الضرر الذي جرّته من ناحية وصول التيارات الحركية إلى الحكم. وطمس الأحلام المدنية التي تمناها الشعب. وحدهم الحركيون الذين بقوا في أماكنهم لم يتحركوا، بل ازدادت الأهازيج والأحلام، ويريدون تحقيق الثورات في كل البلدان العربية وكأنهم يريدونها حرباً أهلية على النحو الذي يجري في ليبيا أو دموية مايجري في سوريا! غابت العقول واستغلوا العواطف. عَظَمَةُ الأَحْداث أنها تُعيِد فَرْز التيارات، حيث تتنوع المواقف وتختلف. الأحداث الحاصلة فيما سمي بالربيع العربي، أو "الثورات" لم تكن أحداثاً سهلة، وكان لأحداثها دافع في تغيير المواقف وإعادة فرزها بين التيارات. مع تلك الأحداث أُعِيدَ تشكيل المعسكرات الفكرية التي بَادَتْ، حيث عاد النفس الشيوعي، وبدأت أحلام الشعارات تعود، حتى لتستمع إلى بعضهم وهو في حماسته الشديدة لكأنه يعبر عن حلمٍ مكبوت على مدى عقود لم يكن يجرؤ على قوله علناً، وعادت الأفكار الشمولية، وحدث الالتقاء التاريخي النوعي بين التيارات الثورية جميعاً، وُلد ما يمكن تسميته ب"تيّار المطالبات" حيث يُركّزون على النقد المستمر للسلطة والدولة، التقت المصالح بين الشيوعيين والقوميين والإسلاميين صاروا تشكيلاً واحداً. لا يملّ هذا التيار من استخدام الأزمات لطرح وجوده السياسي، ليست المشكلة في النقد المدني الطبيعي الذي تقوم به الصحف ووسائل الإعلام وغيرها من الوسائل، بل في النقد السياسي الذي مكّنهم منه وشجعهم عليه المناخ الثوري العام، وعودة الشعارات، ومن ثم بدأ ذلك التشكيل يصنع أبطاله، ويضع تحقيق أحلامه السياسية نصب عينيه. حينما انكشفوا وصار الاستخدام للمطالب ليس استخداماً وطنياً، بل دخل عنصر الاستخدام السياسي لها بهدف إحراج المملكة -كما يتمنون- أمام العالم. ومن أبلغ التغريدات في تويتر التي قرأتها مؤخراً: " راهن أهل الفتن على تويتر؛ وراهن الوطن على أبناء الوطن، وشتان بين الباطل والبطل" فإن الوعي الاجتماعي الذي أثبت الشعب السعودي تمتعه به هو صمام الأمان ضد أي مدٍ حركي، وادراكه أن المجتمعات تنمو بالخطط لا بالأهازيج والشعارات التي تضر ولا تنفع.
مشاركة :