قصدت مؤخراً "بيت الموسيقى" الواقع على كورنيش موسكو لحضور حفل فرقة جاز. لكن إدارة المسرح أفادت بإلغاء هذا الحفل وعرضت على الراغبين استبدال التذاكر لحضور حفل أوبرالي فكنت أحد هؤلاء. من الجاز إلى الغناء الأوبرالي! قد تبدو الهوة واسعة بين هذين الفنين الموسيقيين اللذين يجمعهما قاسم مشترك واحد بالنسبة للكثيرين، وهو أن الألحان فيهما عبارة عن مجموعة نوتات موسيقية، تبدو غير متسقة في ما بينها، وأنه بإمكان أي شخص لا يعرف في الموسيقى أكثر من موال شعبي.. بل وغير ملم ببديهيات العزف على أي آلة موسيقية، أن يؤدي شيئا من "إبداعاته" في فرقة جاز، أو أن يصرخ بكلمات غير مفهومة ليبدو وكأنه بارع في الغناء الأوبرالي. ولكن الأمر لم يكن كذلك في تلك الأمسية الرائعة، التي قادني الحظ فيها إلى حضور حفل أوبرالي.. ربما لم أكن أفكر في حضوره لولا الظرف الطارئ.. فكان الأمر أشبه بمحاولة إضافية للتقرب من هذا الفن والتعرف على شيء من ملامحه الموسيقية.إقرأ المزيد"غلين ميلر" في موسكو.. لو أعطيت الجاز فرصة أول ما يلفت انتباه من يحضر حفل كهذا هو عدد الجمهور المحدود، حتى يُخال لك بعد دقائق معدودة أنك تعرفهم فردا فردا، وأن أحدهم قد يقترب منك الآن ليسألك عن آخر أخبارك.. معاتبا إياك بابتسامة لطيفة لأنك لم تتصل به لتهنئه بعيد ميلاده. وبإمكانك أن تكون على ثقة تامة بأن أحداً من هؤلاء لن يغادر القاعة قبل الأكورد الختامي. بدأ الجزء الأول من الحفل فتناوب الفنان الشاب، الـ "تينور"، غريغوري فاسيليف، وزوجته الشابة، الـ "سوبرانو"، فيتا فاسيليفا، في أداء مبهر أحيانا، واجتمعا بصوتين مزجا بين القوة والجمال في أحيان أُخرى، فكانا ينقلان المستمع إلى أجواء يستشعر روعتها، حتى وإن لم يفهم كلمة واحدة.. فكم منا يفهم كلمات أغاني خوليو إيغليسياس الإسبانية أو البرتغالية، أو معاني أغاني ديميس روسوس باليونانية أو الفرنسية؟ سيطرت على القاعة حالة نادرة من الانسجام بين جانبيّ المنصة، ظهرت بإحساس عميق تجلى على وجوه الحضور.. وهو حضور من نوع آخر، يختلف تماماً عن جمهور الـ "لايك" والـ "سيلفي"، كان ينصت إلى روائع الفن الأوبرالي، فبدا وكأنه في حالة خشوع. وحتى تفاعل الجمهور كان في وقت محدد.. وكأنه يؤدي دوره في الحفل وفق ما كتبه مؤلف هذا العمل الفني أو ذاك في النسخة الأصلية.. فجاء مكملاً لتحف فنية خالدة. وهكذا انتهى الجز الأول من الحفل ليبدأ حفل ارتجالي في الاستراحة، تمثل في ضبط الآلات الموسيقية، أكثرها وقعا على النفس آلة الهارب، إذ راحت عازفة شابة تداعب أوتارها بوتيرة وإيقاع محددين.. فبدا حفلا انفراديا مستقلا بذاته لهذه الآلة الساحرة، التي اقترن صوتها بالعراقة والجمال.. بالأساطير والرومانسية. بدأ الجزء الثاني من الحفل فوجدت نفسي أتذكر، لا شعوريا، كلمات إدوارد لويس، بطل الممثل ريتشارد غير في فيلم Pretty Woman إذ قال: "حينما يستمع الناس إلى الأوبرا لأول مرة فإنها وعلى الفور إما تحوز إعجابهم أو لا. فإذا نالت إعجابهم مباشرة فإنهم سيحبون الأوبرا طوال حياتهم. أما إذا لم تعجبهم.. قد يستطيعون تقديرها ذات يوم ولكنها لن تصبح أبدا جزءا من أرواحهم". كان ترتيب الأعمال الفنية في الأمسية الأوبرالية كالأمواج التي تنقل المستمع من حالة إلى ثانية، ثم تعيده إلى حالته الأولى ليستشعر رونقها مجددا.. مجددا وكأنه لأول مرة.. فيكتشف الجديد في لوحة أخّاذة رسمتها عصا المايسترو، التي تحولت بين يديه إلى فرشاة مبدع تلامس النوتات لتصور بها باقة ساحرة من الفن الأوبرالي. هي لحظات نادرة.. تلك التي تتمنى أن تتوقف فيها عقارب الساعة. ولكن العقارب لا تتوقف لأنها هي أيضا تتمايل على أنغام تلك الأمسية.. التي ما تكاد أن تنتهي حتى تشعر وكأنك في استراحة تأمل ألا تطول.. في انتظار حفل أوبرالي مقبل. علاء عمر
مشاركة :