بدأت الحكومات في أعقاب فضيحة ليبور (أسعار الفائدة لليلة المتداولة بين البنوك في لندن)، بالتشاور حول ما إذا كان عليها فرض المزيد من الإشراف على كيفية حساب أسعار النفط، ولكن المزيد من الإشراف يمكن أن يجعل الأعمال أكثر ميلاً للعتمة. عندما اجتمع وزراء النفط في منظمة أوبك في فيينا في أيار (مايو) الماضي لمناقشة سوق النفط، كان هناك رجل واحد في مركز الاهتمام. هذا الرجل هو خورخه مونتبيكه، الذي كان محط أنظار جميع من كان على شرفات ودهاليز الفنادق الفخمة المفضلة لدى أعضاء المنظمة. يعتبر مونتبيكه ذو الذهن الوقاد واللسان اللاذع، الأمريكي الجنسية والمولود في جواتيمالا، هو مهندس نظام تداولات النفط العالمية. كان هذا الرجل الفرح بنفسه، في الاجتماع الأخير في فيينا يتوقف عند الطاولات ويتنقل بينها ليتبادل الشائعات بين الاجتماع والآخر. ولكن اجتماع أوبك هذا لم يكن هذه المرة عادياً بالنسبة لمونتبيكه. قبل أسبوعين من هذا الاجتماع، أغارت المفوضية الأوروبية على مكاتب في أنحاء أوروبا في محاولة منها للبحث عن أي دليل للتلاعب في أسعار النفط في الأسواق. من بين الجهات التي أغارت عليها المفوضية شركات نفط عملاقة مثل بريتيش بتروليوم ورويال داتش شل وشتاتويل، والشركة الهولندية المتداولة في النفط آرجوس إينيرجيز، كما أغار المسؤولون على المركز الرئيس لوكالة بلاتس في كاناري وورف، وهي الوكالة التي تبلغ عن أسعار النفط، وعمل بها مونتبيكه لعدة عقود. أكسبت هذه الغارات سوق النفط وضعاً شبيهاً بما حدث مع ليبور، وهي معدلات الفائدة غير الموثوقة التي اعتادت التلاعب بها لسنوات بعض من أكبر البنوك في العالم. جاء هذا في وقت أصبحت فيه الحكومات تميل للإشراف المباشر على التداولات غير المنظمة لمادة النفط. كما عمل هذا على زيادة المخاوف بين بعض المشاركين من أن تصبح السوق أكثر عتمة، إذا توقف المتداولون عن التعاون مع وكالات التبليغ عن الأسعار. بلاتس جزء صغير نسبياً من مؤسسة ماكغرو هيل فاينانشال المدرجة في بورصة نيويورك، وهي تتفاخر بتسمية نفسها منظمة الصحافيين. ومع هذا تشكل بلاتس أهمية كبيرة تفوق أية مؤسسة إعلام أخرى بالنسبة لعمالقة شركات الطاقة وبيوت التداول والبنوك الاستثمارية التي تتداول بالنفط. يراقب مراسلو بلاتس أسعار العرض والطلب على منتجات النفط من مزيج خام برنت – المرجع العالمي لأسعار النفط – إلى وقود الطائرات. وهم ينشرون في كل يوم أسعاراً أو تقييماً يستخدمه المتداولون في تسعير صفقات النفط في العالم. يعتبر تقييم بلاتس الأساس الذي عليه سوق العقود الآجلة لخام برنت، الذي تستخدمه شركات الطيران للتحوط ضد حركات الأسعار، وتستخدمه صناديق التحوط في المضاربات؛ وتستخدم الحكومة البريطانية تقييمات بلاتس لحساب الضرائب على منتجي النفط؛ وفي النهاية تلعب أسعار بلاتس دوراً في تكلفة البنزين في محطات البنزين. يقول المتداولون إن ذلك يعطي مونتبيكه قوة عظيمة. أحد المسؤولين التنفيذيين في إحدى الشركات السويسرية الكبيرة المتداولة بالسلع يقول: عليك أن تتحاور مع خورخه. إذا لم تفعل ذلك، فبإمكانه أن يبقيك خارج سوق النفط إلى الأبد. يعترف المسؤولون التنفيذيون في وكالة بلاتس الذين أجابوا بالنيابة عن مونتبيكه، بتضخيم صورته ويقللون من الدور الحقيقي الذي يلعبه. يقول دان تانز، رئيس هيئة التحرير: لا أحد ينكر أن خورخه شخصية كبيرة في سوق النفط، ولكن القرارات لا يتخذها شخص واحد. من المعروف أنه يصعب تحديد مسار الأسعار في أسواق النفط. التجارة مجزأة إلى مئات الأنواع من الخلطات المختلفة من الزيت الخام، والأسواق الإقليمية الخاصة بالمنتجات المكررة مثل البنزين والديزل. المراسلون في شركات مثل بلاتس مسؤولون عن تقييم الكثير من الأسواق التي تجري فيها تداولات خفيفة في وقت واحد. يستطيع المتداولون الاختيار بين التعاملات التي يجب الإبلاغ عنها. وبوجود مليارات الدولارات على المحك، هناك سبب قوي للتلاعب بالأسعار. يقول أحد المتداولين: لعبة الحصول على مركز قوي في أسواق العقود الآجلة، ثم محاولة تغيير سعر بلاتس بمقدار سنتات قليلة، قديمة قدم السوق نفسه. بعض الشركات لا تتعامل مع مراسلي الأسعار بالمرة. إذا لم يحدث تعامل في سوق في يوم ما، على المراسلين أن يقدروا السعر اعتماداً على العروض المقدمة، ما يدخل عنصراً ذاتياً في العملية، وهو ما أصبح مكروهاً لدى المنظمين بعد قضية ليبور. يُنسب الفضل إلى مونتبيكه لتنظيمه سوقاً كانت تعتمد سابقاً على قدر أكبر من التقديرات. صمم مونتبيكه ما يعرف بـ نافذة بلاتس في سنغافورة عام 1990، قبل إدخال هذا النظام إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية. يستمر مونتبيكه بصفته مديراً للإبلاغ العالمي في لندن بالإشراف وإدخال تعديلات دقيقة على منهجيته، ويراجع بالمشاركة مع رفاقه الطلبات من المتداولين الراغبين بتقديم أسعارهم. الشركات المفوضة تقدم عطاءاتها وعروضها إلكترونياً من خلال النافذة – فترة زمنية محددة بدقة قدرها ثلاثون دقيقة في نهاية اليوم - إلى مراسلي بلاتس. وإذا تمت الاستجابة لهذه العطاءات، فعلى الشركة أن تكمل الصفقة، وتكون بلاتس حرّة بنشر كل البيانات. يقول أحد قدامى المتداولين، وهو من الناقدين لمونتبيكه: لنكن واضحين، النافذة أكثر صرامة ودقة وشفافية، مما كانت عليه في السابق. ولكن نظام مونتبيكه واقع الآن في قلب تحقيقات تجريها المفوضية الأوروبية حول المنافسة. وحسب ما نقل عن أفراد لهم علاقة بالوضع، أن الشركة الهنغارية بانونيا إيثانول اشتكت من أنها منعت من الدخول إلى النافذة للمتاجرة بالإيثانول، وأن غارتين على الأقل من غارات المفوضية تركزت على سجلات سوق الإيثانول. تمتنع بلاتس عن ذكر أسباب منع بانونيا من الدخول للنافذة، ولكنها تقول إن عملية تقديم الطلب معرفة ومحددة وتم إبلاغها بوضوح إلى المتقدمين. في العادة من الممكن استشارة الشركات النشطة في النافذة حول سجل بانونيا في تجارة الإيثانول، ولكن ليس للمتداولين الحق في الاعتراض على الداخلين الجدد إلى النافذة. خورخيه مونتبيكه يبحث المحققون، إضافة إلى تفحص حق الدخول، عن دليل على عمليات تزوير في الأسعار. يمكن أن يتضمن التزوير محاولات لتحريك الأسعار إلى أعلى أو أسفل بحدود سنتات قليلة، مثل تسليم أسعار للعرض أو الطلب تكون غير حقيقية أو إبرام تعاملات بعيداً عن الأسعار السائدة. تقول بلاتس إن مراسليها يستبعدون الأسعار التي لا تمثل السوق، وإن ذلك يصعب على المشاركين التلاعب بتقييماتها. ومع ذلك، ما زالت عمليات التدقيق التي يجريها المنظمون لسوق المواد النفطية تتزايد منذ أن سجلت أسعار النفط أرقاماً قياسية في 2008. كما جذبت التحقيقات التي تجريها المفوضية أنظار الصحافة إليها. وبناءً على تعليمات أصدرتها مجموعة العشرين، نشرت منظمة أيوسكو، وهي المظلة التي ينضوي تحتها منظمو السوق، في العام الماضي، قواعد لسلوك الوكالات التي تبلغ عن أسعار النفط. وبذلك أصبحت شركات مثل بلاتس تخضع الآن لأول تدقيق خارجي يجريه محاسبون. تعمل المفوضية الأوروبية الآن على مقترحات منفصلة، يفترض بها أن تكون أكثر حسماً بكثير. ستعمل مسودة هذه الخطة التي تسربت في حزيران (يونيو) الماضي، على تحميل المسؤولية القانونية على كل من المتداولين الذين يسلمون أسعارهم والمراسلين الذين ينشرونها، عن أية خسائر في أسواق المشتقات النفطية الناتجة عن أسعار غير صحيحة. من المتوقع ظهور الخطة الرسمية في أيلول (سبتمبر). كل هذا يضطر مراسلي الأسعار إلى التغير. وبلاتس قريباً ولأول مرة، بنشر شروط الدخول إلى النافذة. يقول تانز: أصبحت بلاتس موجهة أكثر ناحية العمليات، ونحن نعترف بالحاجة إلى توضيح ذلك إلى ذوي العلاقة ومنهم المنظمون. التداول في البترول لا يناسب ضعاف القلوب. يمكن أن تكون شركات معينة مسؤولة عن بيع الناتج الكامل من دولة واحدة، فالقوة والثروة الناتجة تولد الثقة. يشعر المراسلون بنوع من الزهو والتباهي بأنفسهم، وهم يصفون الكيفية التي تسمح بها النافذة للأسواق المعقدة بالعمل. يقول ديف إيرنسبيرجر، المدير العالمي لوكالة بلاتس لأعمال النفط الذي جيء به للتخفيف من أسلوب مونتبيكه المفاجئ: خلافاً لكل أسواق السلع الأخرى، ببساطة لا يمكن تكوين بيئة تجارية معيارية للنفط الفعلي. هناك شكوى مشتركة بين المتداولين، وهي عدم وجود طريقة للاعتراض عند الاختلاف على الأسعار التي تنشرها بلاتس. ونفس المشكلة تتعلق بقدرة بلاتس على منع طرف من الدخول إلى النافذة في عملية تسمى بوكسينغ. لابد من وجود آلية للتسعير في أسواق النفطية. لا تعمل البوكسينغ فقط على تعطيل قدرة متداول ما على التعامل مع سوق معينة – على اعتبار أن بعض الأطراف المقابلة تفضل التداول من خلال النافذة للتأثير على الأسعار- ولكنها أيضاً تثير أسئلة حول قدرة الشركة على الوفاء بالتزاماتها المالية. في ذروة الأزمة المالية قيّدت بلاتس دخول كل من مصرفي جولدمان ساكس ومورجان ستانلي إلى النافذة، حيث جادل مونتبيكه في حينه أن شركات النفط لا تريد التعامل مع البنوك. أضاف هذا القرار المزيد من القلق بخصوص الجدارة الائتمانية للبنوك، في وقت كانت تعاني فيه من ضغوط هائلة. يستطيع المتداولون الاعتراض على القرارات، ولكن لم يتم في السابق سوى اتّباع عمليات تدقيق دائرة المراقبة في بلاتس، ولا يوجد دور لهذه الدائرة في إلغاء القرارات. ولكن تحت ضغوط من منظمة أيوسكو، سيتم تسليم دور الالتزام هذا بحلول نهاية العام إلى هيئة خارجية. لكن يرغب كثير من المتداولين في هيئة تستطيع وقف هذه القرارات. يقول أحد التنفيذيين في إحدى شركات الطاقة: نريد أن يشعر هؤلاء، أي مراسلي الأسعار، كما لو أن هناك إبرة توخزهم من خلفهم، وأن هناك من يراقبهم، وبذلك لا يتصرفون على هواهم. هذه شركات خاصة، وغير منظمة، وبالتالي فهم أناس لا يتعين عليهم تفسير أفعالهم لأي جهة. ومن ناحية أخرى يقول مراسلو الأسعار إن تقديم أسعار النفط أصبح نفسه على المحك. ففي وثيقة تم تداولها بين منظمين في بروكسل، يجادل منافس لوكالة بلاتس بأن المتداولين سيتوقفون عن المشاركة في الأسعار، إذا نفذت المفوضية الأوروبية مسودة اقتراحاتها. تقول مؤسسة آرجوس في لندن: بدلاً من ذلك، سيفضل المشاركون في أسواق الطاقة الفعلية التداول خلف أبواب مغلقة، وهذا يعني العودة إلى العتمة في النفط وأسواق الطاقة الأخرى. في غياب أسعار دقيقة للمواد الفعلية، ستتأثر سلباً أسعار المشتقات النفطية أيضاً، ما يزيد من صعوبة التحوط بفعالية ضد تحركات الأسعار. يقول مسؤول تنفيذي في أحد بيوت التداول في سويسرا: المسؤولية القانونية من شأنها أن تجعل الناس أكثر حذرا بشأن تقديم البيانات، وذلك يعني أن الأسعار التي تحصل عليها ليست هي التمثيل الأكثر دقة. حتى الأجهزة التنظيمية المنافسة تشعر بالحذر حول نهج بروكسل. قال ألب ايروغلو، الذي يقود عملية الإصلاح في منظمة أيوسكو، إنه بعد وقت قصير من غارات المفوضية على شركات النفط وبلاتس: تحتاج الأجهزة التنظيمية إلى لكمة ولكن غير قاتلة. مصدر القلق الكبير هو أن الناس ستتوقف عن المشاركة في هذا النافذة. التهديد للنظام يمكن أن يكون مبالغاً فيه. يجوز للمفوضية أن تتراجع عن أفكارها الأكثر راديكالية، عندما تنشر مقترحاتها بصورة رسمية في أيلول (سبتمبر). في هذه الحالة سيتعين على أي تنظيم أن يتم إقراره من قبل البرلمان الأوروبي. أثبتت نافذة بلاتس أيضاً متانة ملحوظة في وجه سيل من الدعاية السلبية. التعاون مع المبلغين عن الأسعار هو السبيل الوحيدة لدى الشركات للتأثير على الأسعار المنشورة، وهو شيء يقول المتداولون إنهم لن يتخلوا عنه بسهولة. لا تزال العديد من الدول المنتجة للنفط أيضاً ملتزمة بنموذج تقديم تقارير السعر. يؤثر التقييم بشكل مباشر على الإيرادات الحكومية في دول مثل السعودية والكويت، اللتين تبيعان الكثير من إنتاجهما بأسعار مستمدة من التقييمات من وكالتي بلاتس أو آرجوس. وفي فيينا قال مسؤولون من دول الخليج إنه ليس لديهم أية نية لتغيير الطريقة التي يسعرون بها صادراتهم. ويقترح بعضهم أنه يجب على الأجهزة التنظيمية الابتعاد عن سوق النفط الفعلي تماما. عندما نشرت أيوسكو تقريرها العام الماضي، ردت أرامكو السعودية بقوة قائلة: عدم الفهم يتخلل الوثيقة .. يبدو أنها صيغت من قبل الأجهزة المنظمة للأسواق المالية، التي ليس لديها فهم حقيقي في أسواق السلع المادية. ولكن بالنسبة لمونتبيكه، هذه أوقات عصيبة، فبعد أن قاوم محاولات شركات الطاقة ومتداولي السلع وحكومات الدول المنتجة للنفط، للحد من دوره في سوق النفط لأكثر من عقد من الزمان، قد تكون الإجراءات الحكومية - والرأي العام – هي الحاسمة في نهاية الأمر.
مشاركة :