«الشعر روح المواجهة في العالم، ويملك القدرة للتعبير عن الذات البشرية في بضع كلمات، والسرد مواجهة مؤجلة، حكاية تحتفظ بتفاصيلها لزمن آخر ربما يستطيع المواجهة»... هذا ما يقوله يقول الشاعر والمترجم د. حاتم الجوهري، الفائز بجائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية في مصر. كذلك يرى أن الترجمة العكسية يجب أن تقوم على خطاب واع لصورة الذات العربية في حد ذاتها، وعلى خطاب علمي ومعرفي مطلع وموضوعي في عرض وجهة النظر العربية في القضايا الشائكة. حول فوزه بجائزة الدولة وقضايا الشعر والترجمة كان هذا الحوار. كيف استقبلت فوزك بجائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية في مصر؟ فوجئت بفوزي بالجائزة عن ترجمتي كتاب «تأملات في المسألة اليهودية» لسارتر في العلوم الاجتماعية، إذ حصلت عليها بالترشيح من دون أن أتقدّم لها. يحدوني ذلك إلى القول إن جيلنا الحالم في مجال العلوم الإنسانية حصل على دفعة تؤكد نجاح تمرده على تقاليد جيل الوسط في النقل والاتباع والوصف. أحاول أن أتمركز حول الظرفية العربية في منهجي، وأكسر الأعراف العلمية المعلبة القائمة على الإحصاء والوصف، وأعتمد على روح الناقد المفكر صاحب الرؤية، ولا يحكمني سوى واقع الظاهرة العربية الإنسانية والبحث عن سبل استنهاضها. هنا أذكر مقولة الأستاذ سيد ياسين، رحمه الله، في مقدمته لأحد كتبي حين وصفني بـ«النموذج لجيل قرر التمرد على جيل الآباء المؤسسين». سارتر والمسألة اليهودية فزت بجائزة الدولة عن ترجمة كتاب «تأملات في المسألة اليهودية» لسارتر. حدثنا عنه. ظلّ الكتاب مجهولاً ومحجوباً عن العربية نحو 70 عاماً! يوضح موقف سارتر الداعم ليهود أوروبا والعالم كرد فعل لموقف بلدان أوروبا منهم خلال العصور الوسطى، وكرد فعل لما تعرض له يهود فرنسا وأوروبا على يد النازية. كذلك اعتبر سارتر في كتابه أن احتلال فلسطين عمل عادل وشرعي، ويمثِّل الحرية الوجودية للجموع اليهودية المشتتة والمسلوبة الإرادة في العالم، وأن من يرفض الصهيونية نازي معاد لليهود والإنسانية، مقدماً صورة وردية وحالمة ومثالية للوجود اليهودي عبر التاريخ، تقوم على أن اليهودية شكل متخيل يصنعه العالم لليهودي ويجبره على التصرف وفق ذلك التخيل. إجمالاً، قدَّم المسألة اليهودية كأنها أزمة «صورة نمطية» متوارثة لا جذور لها في الواقع. لماذا اخترت كتاب سارتر تحديداً؟ لأنني صدمت بموقفه حين علمت بالكتاب، وبسبب سطحية الخطاب العربي السائد في الصراع مع الصهيونية. نمارس خطاباً ركيكاً لا يصلح إلا للاستهلاك المحلي، ولا نعرف جذور الصهيونية في الغرب وروافدها. في دراسة سابقة لي، كشفت الدور الرئيس لليسار اليهودي الروسي (الصهيونية الماركسية) في احتلال فلسطين وفق ديباجة طليعية تقدم تنظيراً للصهيونية باعتبارها مشروعاً تقدمياً همه الاتحاد مع الطبقة العاملة العربية والمشاركة في النضال الأممي! ونقدت انطلاء تلك الديباجة على بعض فرق اليسار العربي وجهل البعض الآخر بها، في حين ثمة من رفضها رفضاً قاطعاً. وفي كتاب سارتر، أكشف توظيف مفاهيم الوجودية والحرية لتسويغ احتلال فلسطين، وأبيِّن السياق الأوروبي التاريخي وراء هذا الموقف. نحن متخلفون بأجيال عدة عن فهم جذور الاحتضان الأوروبي للصهيونية، ومتخلفون في إنتاج خطاب معرفي مضاد وجاد لعرض وجهة النظر العربية العادلة. فلسطين قدّمت بالإضافة إلى الترجمة دراسة جادة ومركزية كوثيقة للدفاع عن فلسطين. كيف كان ذلك في ظلّ الظروف الراهنة؟ تقصد في ظل حالة الضعف العربي. يستمدّ صانع القرار الغربي قوته من اعتقاد راسخ في أخلاقية مبررات الاحتلال الصهيوني لفلسطين. من جهتنا، علينا أن نخلخل ذلك الرسوخ ونقدِّم وجهة نظر عربية تفكّك جذوره الماركسية والوجودية، بالإضافة إلى الجذور الدينية، والجذور السياسية التي قدمت المسوغ الأخلاقي والثقافي للاحتلال، وأوجدت الدافع إلى التعاون المادي الواقعي. لذا حتى في ظل حالة الضعف، يظلّ خطاب المواجهة ورقة تفاوضية رابحة للمفاوض العربي على المدى القصير، وعلى المدى الطويل هي تؤسس للحظة انتصار كامنة ومؤجلة في التاريخ إلى حين استرداد السيادة العربية على فلسطين، وفق مبررات منطقية وعادلة تمكن المشروع العربي المؤجل، من الوقوف شامخاً في وجه العالم حينها. إلى أية درجة ستفرض عليك الجائزة تداعيات وتحديات؟ ستفرض عليّ المزيد من الجدية والمواجهة، وستزيد من المسؤولية وتكون دافعاً قوياً لي لاستكمال المسيرة من دون تردد، ووضع أسس البناء لمدرسة جديدة في دراسات «التدافع الحضاري» لأجيال مقبلة سيكون حلمها حاضراً ملحاً. كيف ترى واقعنا الثقافي، ودعم المؤسسات الثقافية للعمل الثقافي الجاد باعتباره واجهة حضارية للبلاد؟ أعتقد أننا نعاني قصوراً شديداً في هذه النقطة. وضعتُ مشرعاً لتطوير عمل المركز العلمي للترجمة في الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ عامين، يصلح كواجهة حضارية للبلاد ويقوم بدوره في الترجمة العكسية وتصدير صورة الذات العربية، والقيام بالبحوث والدراسات وتراجم «التدافع الحضاري»، لكنه إلى الآن ما زال محلك سر. الحركة النقدية أنت مطلع على النقد العربي وحيثياته وتفاصيله، هل تعتقد أن للناقد دوراً في رفع الوعي الثقافي العام؟ إذا كان الناقد جاداً في التوحّد مع مجتمعه وتشرب قضاياه الحقيقة، فإنه إذا استطاع النفاذ إلى روح الجماعة سيطور خطاباً حقيقياً ويجد الجسور مع مجتمعه، وستنشأ بينهما حالة من التفاعل والتأثير والتأثر، ستساهم بالتأكيد في رفع الوعي العام. بصفتك ناقداً وأكاديمياً، لماذا في رأيك غابت الحركة النقدية عن مواكبة المنتج الشعري الجديد؟ استقطبت الحركة النقدية السائدة مجموعة من الشعراء الجدد للكتابة في منطقة يروجون لها، وهي في الوقت نفسه تعجز عن التواصل مع روح الكتابة الجديدة التي تستشرف نهضة الذات العربية وحلمها. ثمة نوع من الهالة والتقديس و«الهوس المرضي» لدى البعض بقصيدة النثر وبنمط معين ساد فيها، كبديل عن انهيار الذات والعجز. مع كل تقديري لهم، يحاول هؤلاء إيقاف عجلة التاريخ، فقصيدة النثر عبرت عن مرحلة، لكن أسطرتها وتحويلها إلى شكل «يصلح للعصور كافة» هو نوع من الذاتية و«يوتوبيا» الفقد والحنين، وسيتجاوزها التاريخ فجأة وبقوة عندما لا تصبح خياراً رسمياً مدعوماً لجناح في مؤسسة الثقافة المصرية. الشعر والسرد يرى الشاعر والمترجم حاتم الجوهري أن الشعر روح المواجهة في العالم، ويملك القدرة للتعبير عن الذات البشرية في بضع كلمات، والسرد هو مواجهة مؤجلة، حكاية تحتفظ بتفاصيلها لزمن آخر يستطيع المواجهة. لماذا تقص حكاية في مئة صفحة إذا انتصرت في الصفحة الأولى؟! وربما علينا أن نراجع موقفنا من الشعر الغنائي، أو نطور خطاباً شعرياً غنائياً جديداً، يتجاوز التعالي على الغناء، فحضور السيادة لنمط شعري كشكل وحيد للتعبير عن الذات العربية، خلق تشوهات ومواقف متناقضة كثيرة. كل حضور يدفع إلى غياب ما، وأعتقد أن الوقت حان لاستكشاف آفاق جديدة للذات الشعرية العربية».
مشاركة :