ثلاث روايات للكاتب عبدالإله بلقزيز صدرت في خضم الأزمة الكبرى، وما استتبعته من انتفاضات أفضت إلى انهيار أنظمة وتشظّي مجتمعات عربية عدة.العرب شرف الدين ماجدولين [نُشر في 2017/07/23، العدد: 10700، ص(13)]عبد الإله بلقزيز: انهيار القرابة وتلاشي العائلة وتفكك القيم ما الذي تتيحه الرواية بالنسبة إلى مشتغل بالأفكار وبالتاريخ وبالعقيدة؟ وما الذي تسعف به صور المواقف والعواطف والكلام الحواري المفترض، الباحث عن أعطاب النهضة ومعيقات الحداثة؟ وفي النهاية ما الذي يمكن أن يقدمه هذا العالم الهش المتصل بالاحتمالات للمنغمر بالشأن العام وبالسياسة؟ ثلاثة أسئلة تتبادر إلى الذهن مع كل إصدار روائي يفد من خارج مدار الرواية الصرف، ويقدم نفسه بوصفه اقتراحا سرديا لمختص في إنتاج خطابات لا تزعم الحماس دائما لعوالم الخيال والتخييل والمتخيّل، من التاريخ إلى الفلسفة ومن الاقتصاد إلى التحليل النفسي، ومن الاجتماع إلى السياسة.. حقول تحيط بها الرواية وتداريها، وتعرّيها وتنهل منها، دون أن تدّعي تمثيلها أو التغلغل إلى عمقها العالم؛ واختصاصات قد تسكن لا وعي الروائي قبل إدراكه، وتهديه دون أن تستغرق عمله اليومي، وهي، في المحصلة، الأسئلة ذاتها التي تستثار مع المنجز الروائي للمفكر عبدالإله بلقزيز الذي تواترت إصداراته الروائية والسيرية والنثرية في العقد الأخير من هذا القرن على نحو غزير وبنفس سردي نادر.يقظة الوعي فما بين رواية “صيف جليدي” و”الحركة” و”سراديب النهايات”، تنتسج عوالم سردية متقاطعة ومتنائية في آن، لمجتمع مغربي لا يخفي التباساته وألغازه، في مرحلة تاريخية تمتد من ثمانينات القرن الماضي إلى العقد الأخير من القرن الحالي، يمتدّ عبر نسيج مجتمعي متعدّد الهويات واللغات والطبقات، ومتغلل في فضاءات مدن وقرى تصل الحواضر الكبرى لمراكش وفاس والرباط والبيضاء بهوامش “بنجرير” و”إيمينتانوت” و”الرحامنة”، وفي امتداداتها الواصلة بين المراكز والهوامش، تبنى حيوات متقاطبة ومتعارضة ومتجاورة، لشخوص يفرقها قدر الانتماء العائلي، ومكانة العيش، ويوحّدها طموح الارتقاء الاجتماعي، والأمل في التغيير، فتنتسج مسارات ومشاهد وحوارات تلتقط جوهر ما يؤرق الضمير الجماعي، كما تعيد تمثيل مدونة السياسة وأنساق تجاذبها، وما يرفد أطرافها من قناعات وعقائد، بعضها يساري المحتد، وبعضها إسلاموي الهوى، والبعض الأخر مخزني الأرومة، أو انتهازي الانتماء، الرباعية ذاتها التي تسكن أطواء الأفراد والجماعات، وتسم الذهنيات والتطلعات والأحلام، في غد لا مهرب فيه من غبش مقيم. صدرت الروايات الثلاث ما بين سنتي 2011 و2015، أي في خضم الأزمة الكبرى وما استتبعته من انتفاضات أفضت إلى انهيار أنظمة وتفكك دول وتشظّي مجتمعات عربية عدة، وكأنما تخطيطات الروايات الأولية وسجلات عوالمها المصطخبة بهدير العصيان والتمرّد والعنف، كانت جاهزة في ذهن الروائي، وجاءت الشرارة فقط لتقدح زناد الصوغ على الورق، وتملأ الفجوات والهياكل بالدماء والضياء والماء، ذلك على الأقل ما تنطق به الفقرات الأخيرة من رواية “صيف جليدي” التي كان الحدس فيها أصدق من تفاقم الوقائع، بينما استرسلت روايتي “الحركة” و”سراديب النهايات” في تسطير المستشرف. راسمة ملامح تحولات في القيم وتطلعات النهوض وأحلام العبور إلى التحقق وبناء الأمل؛ يقول السارد “لست يائسا تماما لأن في النفس بقية باقية من الإيمان بالتاريخ وبإرادة الناس. لكني غير متفائل لأن ضوءا في الأفق لا يتبين اليوم.. كم ستستمر هذه الغمة؟ لست أدري. أعرف شيئا واحدا: إن هياكلنا التي بنينا واستعملنا، وأفكارنا التي شحذنا، وحكمنا لم تعد صالحة. علينا أن ننتظر آخرين يأتون من بعدنا، كي يحرّروا هذا العالم.. من تواضع منا سيصفق لهم ويمدحهم، ومن تعالم ومسه شيء من المكابرة سيحشر نفسه في الصفوف كي يسرق مجدا ليس له” (صيف جليدي ص 352). والظاهر أن المقترح الروائي لعبدالإله بلقزيز، في كثافته وتركيبه، وإسهابه السردي، يتقدم إلى قارئه بوصفه تنويعا على منجز نثري أشمل، بذر حدوسه الرؤيوية الأولى في تفاصيل السرد الذاتي المتصل بالمسار الحياتي وبذاكرة الولع الأثيل بالمجتمع والناس، وباللغة الحاضنة لفتنة الحواس، وبروافد الحكايات القادمة من حضن الجدة والأم، قبل الحلقات والمكتبات، وقبل الدفق الهادر من أخبار عنف لا ينتهي في الشاشات، من بغداد إلى بيروت ومن دمشق إلى صنعاء، ومن العتبات المنغرسة في كريات الدم، التي سكنت وجدان الروائي قبل أن يسجل بعض أطيافها في “يوميات الحرب الإسرائيلية على لبنان”، و”رائحة المكان” و”ليليات” و”على صهوة الكلام” حيث تتقدم السبائك النثرية بما هي تجريد تأملي للمضمرات الروائية ومحاورة للمعنى بين الذات وعمقها الداخلي قبل أن تتداعى بهيئات وتتوزع على أشباه ونظائر سردية واضحة. الرواية وتقلبات القيمالاستسلام للعوامل هكذا تنطلق ثلاثية “صيف جليدي” و”الحركة” و”سراديب النهايات” جميعها من قاعدة أساس في روايات المصائر البشرية وهي انهيار آصرة القرابة المفضية إلى تفكك القيم وتلاشي لحمة العائلة الصغرى التي يعقبها تحلل الحزب والنقابة وموت السياسة وتفاقم التطرف والعقائد الراديكالية، واستبدال فطرة أصيلة بخبرة مخادعة وتنامي الشك في الحاضر والمستقبل لتتوحد بالتدريج، ظلال البيت والجامعة والمقاهي والأسواق ومحطات العبور، بإحساس مرزئ باللاجدوى، وبتجذّر العطب وتتخايل عبر المقاطع الروائية المسترسلة أحاسيس الفقد لصوت أمل مخذول وأدته لعبة العودة في كل مرة إلى نقطة البدء وإنكار التراكم. يخرج الأبطال الثلاثة “علي” و”حسن” و”عبدالرحمن” في سياقات الروايات الثلاث من معطف خراب عائلي ممتد في نسوغ المدينة والبلد، يفقد “علي” و”عبدالرحمن” علاقاتهما بالإخوة، المنساقين وراء غواية المال والسياسة، في روايتي “صيف جليدي” و”سراديب النهايات” مثلما تنهار الثقة بين الأب والابن (حسن) المشدود إلى الطوفان الشعبي الذي خرج إلى الشوارع والساحات في رواية “الحركة”، بيد أن الروايات الثلاث أيضا تسعى لأن تستبدل علائق القرابة بصلات مستحدثة محمولة على أحاسيس الأزمة والفقد، لتركب احتمالات مفتوحة لمسارات متباينة يوحدها الانتماء لطبقات منهكة بضرورات اليومي، كما يؤلف بينها التوق إلى الخلاص من أعطاب الحاضر في مغرب تفاقمت علل حكمه ونخبه وأحزابه، وسرعان ما تنتظم مقامات التواصل على إيقاعات أحاسيس عاطفية ممتنعة تحاصرها في السياقات الروائية المختلفة، فضاءات السجن والعطالة والمرض واليتم وقلة الحيلة. يونع الحب في الروايات الثلاث معا بما هو سلوك حياتي له التباساته وغموضه الظاهر والخفي، لن يأخذ مداه إلا من حيث هو سند تصويري لتطلعات الأبطال الثلاثة (“علي” و”حسن” و”عبدالرحمن”)، إلى تجاوز محيطهم العائلي المنهار، ومن ثم فإنه لا يلبث أن يتحول إلى مثير سردي للخوض في أسئلة أكثر تغلغلا في وجدان الأبطال في صلتهم بالعائلة والمجتمع والمحيط السياسي المتقلّب. والحال أن فشل تلك التجارب العاطفية مجتمعة وامتناع تحققها في مبانيها الروائية المتباعدة ما هو إلا تنويع على مساحات الانكسار المستشري بعنف، شأنه شأن الاغتراب والاستسلام لعوامل الفرقة، وارتباك أنساق التواصل يمثل في السياق فضلا عن ضرورته الدرامية بوصفه مدخلا لمساءلة معضلات فردية وجماعية أكبر، من هنا نفهم كتلك الجملة الجارحة في الفصل الأخير من رواية صيف جليدي “علاقتنا انتهت يا وفاء، ولا فائدة من تجريب أمل مستحيل” (ص 345). أو تلك التي ترد على لسان حسن في رواية الحركة “وداعا أيها الوهم الجميل” (ص 106). الرواية تصفية حساب في نص “رائحة المكان” يطلّ علينا صوت السارد المسكون بمحاورة ما يجري من شرفة مراكش وفاس والجامعة على المعترك الذي فاض بمخزونه السياسي وجدل سقوطه ونهوضه، وفي الروايات الثلاث تتعمق الأسئلة عن هذه الذاكرة السياسية المثقلة بنكباتها وانتكاساتها وضياع ثمارها، لكن فكرة جوهرية تحوم على كل تلك العلاقات والصداقات والوقائع المفعمة توترا وتطلعا إلى إنجاز ممتنع، هو الإهدار الدائم لصوت التاريخ الذي يتبدد أمام مزاعم وادعاءات الأجيال المتعاقبة وامتناع العقلانية عن الإحاطة بممكنات النضال من أجل التغيير، وهو ما يتقن عبدالإله بلقزيز حبكه وتصريفه إلى التخييل الروائي المؤلف بين الرؤى والأصوات والمرجعيات.التوق إلى الخلاص لهذا فإنه يمكن، بصيغة ما، اعتبار الثلاثية الروائية تصفية لحساب الأنا الأعلى التاريخي لجيل بكامله مع بنية الخيبة وإهدار الفرص وتبديد الطاقات، بقدر ما هي تصفية حساب مع أوهام البطولة والحوارية المجهضة، ومع الأهواء المتمترسة خلف قناعاتها المغلقة، في مقطع من رواية “الحركة” يُسدل الستار على يقظة الوعي بمقطع تعقيبي على المحاورة الأخيرة بين نبيلة وحسن الخارجين من مطحنة 20 فبراير، يقول “لم يسأل، ولم ينبس بكلمة. مرت دقائق خمس، ونحن لائذون بالصمت، كأننا على ذلك تواطأنا من دون مشافهة.. حين لا تجد من تسأله، تتحول أنت نفسك إلى سائل ومجيب. لا يكون للسؤال من معنى ساعتها لأن الشريك منعدم، أو غائب، أو معطل الوظيفة. يشبه ذلك أن تلعب الورق أو النرد أو الشطرنج وحدك” (ص 214). لكن قبل هذا المآل المفضي إلى الخرس المقيم، كانت ثمة حوارات منطلقة لأبطال الروايات من “علي” إلى “عبدالرحمن” ومن “حسن” إلى “نبيلة” إلى “عبدالعزيز″ و”عبدالرحيم”، تناولت الإضرابات النقابية والعمل السري، ونضالات الأحزاب الوطنية والاعتقالات التعسفية والإنصاف والمصالحة وتعديلات الدستور والانتخابات وحركة عشرين فبراير وتطلعات الشباب للتغيير، كما شخصت الانجراف التدريجي إلى المحافظة وانتشار التيارات الإسلامية المعتدلة والمتشددة وطوفت بنا من مراكش إلى البوسنة، ومن حركة طالبان إلى القاعدة، ومن الفساد الانتخابي إلى تمويل الإرهاب، كل ذلك في مواقف ومشاهد وحوارات تعيد تمثيل الوقائع المنصرمة وتجلي مضمراتها والتباساتها، والحصيلة هي تصفية حساب مع تركة تأبى إلا أن تتجلّى في كل مرة، بإبدالات مختلفة حاملة معها بذور نكوصها وعوامل لواذها بالصمت القاتل. *** والشيء الأكيد أن الروايات الثلاث نبعت من سعي سردي مقنع لمراجعة التاريخ والوقوف على اختلالات القيم وفساد الأمكنة والطبائع الإنسانية التي بدلت لحاءها القديم، ولتخطي لوثة الطموح المفسدة لصلابة الأصل والقراءات الخاطئة لعمق ما تضمره الأحلام من مآزق، كما استهدفت في تفاصيلها التخييلية البديعة التخلص من ثقل أفكار أنهكت الذاكرة عن واقع مجتمع ودولة طحنهما التنابذ والصراع، ولتأويل التباسات مزمنة وإخفاقات متفاقمة عصفت بمغرب لم يخل يوما من سكينة المحافظة وعنف التحول. ولقد ضمّنها الروائي تأملاته الطويلة في كنه السياسة وقصدها النبيل وشططها أيضا، وولعه المزمن بماهية النضال واشتراطاته وممكناته، وكتبها في المحصلة لتكريم مدن وأحلام وأسماء، ونقلها من عتمة التاريخ إلى ضوء المحتمل، فما الرواية في النهاية إن لم تكن استنقاذا للأمل. كاتب من المغرب
مشاركة :