المستقبل وحده يوقف زحف الماضي | عبدالمنعم مصطفى

  • 7/4/2014
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

لا تفنى المادة، ولا تخلق من العدم.. هكذا علمونا في سنوات الدراسة المبكرة، فطبقا لقانون بقاء المادة، تتحول الأشياء، أو تتفكك، أو تتحلل، لكنها أبدًا لا تذهب إلى العدم.. حتى القيم والأفكار التي لم يوفر لها قانون بقاء المادة حماية ضد الفناء، هي أيضا لا تفنى، وإنما تتطور، وتتحلل، ويعاد تشكيلها وصياغتها، لتحمل عناوين مبتكرة، بنكهات جديدة، وإن كان المكون الأساسي لها هو ذاته بجوهره القديم. وإذا كان اتفاق سايكس - بيكو لم يخلق «الشرق الأوسط» من العدم، لكنه أعاد رسم حدود أعضائه، وقام بتوزيع حصص السيادة عليها، وتحديد أدوار كل منها، فإن الحديث الآن عن ما يسمى بـ الشرق الأوسط «الجديد» أو «الكبير»، لن يخلق إقليمًا من العدم، لكنه يسعى لإعادة هيكلته، ورسم خارطته مجددا وفق مصالح وحسابات وقيم جديدة، تفرضها موازين قوى استجدت، ويسعى إلى استحداثها أطراف دولية وإقليمية، تمتلك رؤية وخطة وبرنامج وأدوات. قد يبدو عقيمًا الجدال حول ما إذا كان ما يجري في المنطقة العربية - الإسلامية (الشرق الأوسط الكبير) والممتدة من باكستان في الشرق وحتى مالي في الغرب، هو عملية تفكيك ممنهجة، تستهدف تسهيل إعادة رسم الخرائط وتوزيع الأدوار، أم أنه عملية تحلل طبيعية لدول، شاخت مؤسساتها أو تآكلت مكوناتها، أو انحسرت قدرتها على الوفاء بمهام أوكلها إليها من رسموا خارطتها أو منحوها باعترافهم شهادة الميلاد، غير أن هذا الجدال في الحقيقة جوهري، لكل من أراد استقراء المستقبل ناهيك عن التأثير فيه. فالدول التي تحللت بذاتها، أو أسقطها هبوب الريح، هي في الحقيقة مجتمعات لم تملك مقومات الدولة في أي وقت، أما الدول التي تستهدفها مخططات التفكيك، ففيها من عوامل الضعف ما قد يغري بها الخصوم، ولا بديل أمامها سوى معالجة عوامل الضعف الذاتي، وأهمها على الإطلاق، تآكل الشرعية أو غياب القبول العام للحكم، وكذلك تحلل أو تفكك أواصر الوحدة الوطنية الداخلية بين مكونات الدولة الواحدة. الحالة العراقية تصلح نموذجًا، أتمنى أن يكون غير قابل للتكرار في المنطقة العربية، فغياب الشرعية، استدعى الغزو الخارجي أو منحه مبررات التدخل، وغياب قيم المواطنة الحقة، استدعى محاصصات طائفية، وتطلعات عرقية للاستقلال، قادت العراق إلى ما هو عليه الآن، وفتحت الباب أمام احتلال إيراني للقرار العراقي تحت لافتة الطائفية، وكذلك أمام زحف قوى ماضوية «داعش» إلى أقاليم تسكنها أغلبية سنية، وأخيرًا فقد سمح غياب المواطنة، بتبرير وتمرير مخطط قيام دولة كردية في شمال العراق. السهولة التي جرت بها عملية إعلان قيام ما يسمى بـ»الخلافة الإسلامية» على يد «داعش» لا يقف وراءها فحسب وجود قوى دولية أو إقليمية متآمرة، وإنما -وهذا هو الأخطر- وجود ميل ماضوي في المنطقة، يجعل جرها إلى الخلف أسهل بكثير من قيادتها إلى الأمام، هذا الميل للماضي، ساهمت في صنعه غالبا، أو منحته قبلة الحياة أحيانًا، مناهج تربوية، وتعليمية، وتثقيفية، خلطت عن عمد في أغلب الأحيان بين السلطة وبين الدولة، وسمحت بالتماهي التام بين شخصية الحاكم وهوية الوطن، حتى بات طبيعيا وجود ذلك الالتباس لدى البسطاء، حول ما إذا كانوا مواطنين لدى الوطن أم رعايا لدى الزعيم. وبسبب هذا التماهي بين السلطة وبين الوطن، أصبحنا نرى من لا يمانع في الخلاص من السلطة الظالمة ولو فوق جثة الوطن ذاته، ولهذا السبب ذاته رأينا أوطانًا مثل سوريا، تتمزق فيما تستمر السلطة فيها، ورأينا دولة كالعراق تذوي وتذوب فيما يفتش شعبها عن ملاذ ولو لدى «داعش» في الماضي. الخروج من حالة «استدعاء الماضي» والدخول في حالة «استحضار المستقبل» يقتضي آلية فعل تتجاوز خطابات التمني، وبقدر ما بات «الماضي» المتسربل في ثياب الدين خطرا على صميم وجود الأوطان، بقدر ما باتت عملية الخروج من الماضي والدخول في المستقبل تستدعي إجراءات عملية على الأرض تستدعي قيم «الدولة الحديثة» بالمساواة بين مواطنيها في الحقوق والواجبات وتكريس «المواطنة» الحقة، بإلغاء كل صور التمييز على أساس العرق أو المذهب أو الطائفة أو اللون أو الجنس. الذين أفسحوا الطريق أمام قوات داعش في شمال وغرب العراق، عراقيون يرفضون التمييز الطائفي بحقهم من قبل حكومة نوري المالكي، أما الذين يمكن أن يتصدوا لحماية أوطانهم من قوات الخليفة المزعوم أبوبكر البغدادي، فهم مواطنون ذاقوا حلاوة المواطنة الحقة واستظلوا بظل وطن حقيقي. بيان الخليفة المزعوم، قام بتغيير اسم الدولة الإسلامية في العراق والشام ليصبح «الدولة الإسلامية» وحسب، في إشارة إلى اتساع طموحاته لتشمل خارطة دولته المزعومة كافة دول المنطقة دون استثناء، ما يعني أن الماضي يهددنا جميعا باحتلال صفحات مستقبلنا، بينما تكتفي قوى عظمى وأخرى كبرى بمتابعة المشهد من كثب، لتمنح الرابح بركتها، وتحصل في المقابل على حصتها، ولا خيار أمام من تبقى من قوى الفعل في النظام الإقليمي العربي، سوى تعزيز عوامل القوة الذاتية، بتحصين الداخل عبر تحديث منظومة العلاقات بين الشعوب والحكومات، وكذلك بناء نسق تحالف عربي، لا بديل عنه لصيانة صميم بقاء تلك الدول، في إقليم يتآكل بفعل انعزاله طويلًا عن حركة التاريخ، أو تحت وطأة مؤامرات ومتآمرين أغراهم العجز العربي بالتقدم لالتهام ما تيسر من أوطاننا. في المنطقة العربية دول تتآكل، وأخرى تتحلل،على نحو أصبح معه النظام الإقليمي كله عرضة للتآكل والتحلل، ما يعرض دولا محورية لمخاطر وجودية، لكن ثمة خمائر للقوة ما تزال موجودة، وثمة خيارات ما تزال متاحة، وثمة بدائل ما تزال قائمة، فالأمم الحية، لا تفنى، ولم تخلق من العدم. moneammostafa@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain

مشاركة :