هل هناك منهج حركي في القرآن الكريم يحدد للحركات الإسلامية في شتى بلدان العالم اليوم كيفية التصرف في مواجهة المعضلات التي تواجهها، وتحركها من أجل إقامة دولة الإسلام، أم أن القرآن الكريم خلا من أي توجيه لذلك؟! بالقطع هناك منهج حركي يزخر به القرآن الكريم، ويحدد ما يجب على هذه الحركات القيام به، لكن يختلف الأمر من دولة إلى أخرى، فهناك دول يقبل حكامها بوجود الحركات والأحزاب ذات التوجه الإسلامي، وهناك دول أخرى تكن العداوة والبغضاء لهم، وهناك دول ترفع شعار تطبيق الشريعة، ولكنها تفرغها من مضمونها، وهو العدل واحترام الحريات، ودول ترفع شعار العلمانية كطريق وحيد لها، وأخرى يحكمها عتاة لا يزحزحون عن كرسي السلطة سوى بانقلابات عسكرية عليهم. إن المنهج الحركي مصطلح جديد في الدراسات القرآنية، وبالأخص في أصول التفسير ومنهجه، يكاد لا يتطرق إلى دراسته إلا القليل مثل صلاح عبد الفتاح الخالدي في كتابه (تعريف الدارسين بمناهج المفسرين)، و(المنهج الحركي في ظلال القرآن)، ومع ذلك لا يقدم لنا تعريفاً محدداً لهذا المصطلح، ولا يتحدث عن تاريخ نشأته على وجه واسع، وإنما يركز في قواعد التفسير الحركي المتمثلة في (الظلال). وكذلك عماد محمود عبد الكريم في كتابه (الإمام الشهيد حسن البنا ومنهجه في تفسير القرآن الكريم)، فهو يفيدنا تاريخاً بسيطاً عن ظهور هذه مدرسة التفسير، وعلاقتها برجال الحركات الإسلامية، لا سيما الإمام البنا. ويعرف الدكتور منير الغضبان، صاحب كتاب المنهج الحركي في السيرة النبوية، المنهج الحركي بأنه الخطوات المنهجية التي تحرك بها النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعثته حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى. ويقتضي متابعة المراحل خطوة فخطوة ومتابعة السير في الحركة الإسلامية؛ لأن السيرة النبوية هي التطبيق العملي للإسلام. ويلاحظ أن الغضبان يذكر في التعريف مصدر المنهج، وهو السيرة النبوية، التي تستقى منها نظريات العمل عند الحركة الإسلامية. ولهذا كان -وغيره من مؤلفي السيرة- يعتني في دراسته السيرة النبوية بالوقوف على الدروس والعظات التربوية، دون أن يخوض في تفاصيل أحداث السيرة النبوية والوقائع التاريخية إلا بمقدار ما تقتضيه الضرورة في إيضاح المراحل التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم وسماتها -وهذه المراحل هي سرية الدعوة، وجهرية الدعوة، ومرحلة إقامة الدولة، ومرحلة التأسيس، ومرحلة انتشار الدعوة في الأرض- لأن الغرض من هذه الدراسة وفقهها أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها، مجسدة في حياته صلى الله عليه وسلم، بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاماً مجردة في الذهن. أما إطلاق هذا المصطلح منهاجاً من مناهج التفسير نجد أن الباحثين يكادون يتفقون على أن يرجعوه لسيد قطب (ت 1966)، ويعدونه مؤسساً لنظرية المنهج الحركي للقرآن؛ إذ كتب تفسيره (في ظلال القرآن) -في الأجزاء الثلاثة الأخيرة من القرآن الكريم والأجزاء العشرة الأولى من الطبعة الثالثة المنقحة- على ضوئه، وكان الجزء السابع هو أكثر الأجزاء تركيزاً وأنضجها فكراً؛ إذ توسع في الحديث عن العقيدة ومباحثها، في مقدمته المطولة لسورة الأنعام، وأثناء تفسيره له، ويؤكد ذلك تردد ذكر مصطلح (المنهج الحركي) في (الظلال) أربعة وعشرين مرة مقروناً ببيان سماته. ومع ذلك لم يقدم لنا سيد قطب تعريفاً محدداً لهذا المصطلح، وإنما يوضح هذه النظرية الحركية في تفسير القرآن بعبارات وافرة متناثرة في ثناياه، بالكاد يؤكد دائماً أن المنهج الحركي منهج عملي واقعي، وهو طبيعة للإسلام الذي يواجه الواقع بوسائل مكافئة. لعل الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي يفرد في تعريف مصطلح (التفسير الحركي) بقوله: "إن الاتجاه الدعوي الحركي للتفسير هو الذي يركز على الدعوة والحركة وعلى التربية والتزكية والجهاد والمجاهدة، ودعوة المسلمين للحركة بالقرآن، ومجاهدة الكافرين على أساسه، وتقديم دروس في الدعوة والجهاد والمواجهة". وقد بدا من خلال هذا التعريف أن الخالدي يقتصر في بيان هدف يريد أن يحققه المفسر من التفسير، كما يبين الجوانب التي يتناولها فيه، وهي التركيز على معالجة القضايا الشاملة في التربية والدعوة والحركة والجهاد، ولكن في توضيحه سبب تسمية منهج سيد قطب في (الظلال) بالمنهج الحركي الدعوي التربوي، يصور لنا المراد بهذا المصطلح أوضح مما سبق؛ إذ يشمل فيه مقاصد القرآن ومهمته الحركية الدعوية التربية، ويقول: "منهج حركي؛ لأنه يدعو المسلمين إلى حسن فهم القرآن وتدبره، ثم حسن الحركة في عالم الواقع، وليس الاكتفاء بدراسته دراسة تفسيرية نظرية، ومنهج دعوي؛ لأنه يريد منا أن نجعل القرآن منطلقنا في الدعوة إلى الله، ومعرفة حقائقه وتوجيهاته الدعوية، ومواجهة الأعداء به، ورد مؤامراتهم ضد الأمة، ومنهج تربوي؛ لأنه يريد من المسلمين أن يتربوا على القرآن، ويتخلقوا بأخلاقه ويلتزموا بتوجيهاته، وأن يصوغوا أنفسهم صياغة قرآنية، ليكونوا قرآنيين ربانيين، ويريد أن يتربى المجتمع الإسلامي على القرآن، وأن تنشأ مؤسساته عليه، وأن يكون القرآن هو المهيمن على كل مجالات الحياة فيه". تزخر سُوَر القرآن الكريم بسير الأنبياء والرسل ليس لأنها تمثل ذخيرة حية ونابضة ومفعمة بالتجارب، ولكن لأنها تمثل منهجاً حركياً لكل حركة دعوة أو إصلاح أو تغيير منشود ، وهكذا لم يكن حرص القرآن الكريم على إثبات وتحليل هذه التجارب وغيرها إلا دعوة للتأمل فى تلك التجارب بهدف الاستفادة منها، والتأمل كذلك فى الأمراض والأعراض التي تلحق بالأمم والجماعات فتقودها إلى طريق الهلاك حتى نتجنبها. ولا شك أيضاً أن المساحة الواسعة فى القرآن الكريم التي تناولت بني إسرائيل - من حيث فسادهم الديني والأخلاقي - ومن حيث تجارب الأنبياء معهم ، وبهم مع غيرهم من الأمم ، لم تكن عبثاً، ذلك أنها مقصودة بالطبع؛ لأن من الممكن أن تلحق بنا كأمة إسلامية ورثت الكتاب والنبوة والرسالة، وورثت دور الشاهد على الناس إلى يوم القيامة، يمكن أن تلحق بنا هذه الأمراض، وبالتالي فيجب معرفتها لتجنبها وكذا بالنسبة لطليعة الأمة "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" أن يفهموا مسيرة الأنبياء للاستفادة منها فى مجال الدعوة والإصلاح والتغيير. ولا شك كذلك في أن للتجارب خصوصيتها زماناً ومكاناً، وأنه من غير الصحيح التقليد الهندسي للتجارب السابقة، ولكن الاستفادة منها كمنهج متكامل تتغير طريقة تركيبه على الواقع في كل مرحلة ومهما كانت درجة التشابه بين حالة نمر بها وبين تجربة سابقة لأمة أو نبي، فإن من الضروري إدراك استحالة الانطباق الهندسي بين حالتين مهما بلغت درجة التشابه، وهذا لا يمنع بالطبع من الاستفادة من تلك التجارب، بل يؤكد على ضرورة هذه الاستفادة مع إدراك أهمية الإبداع والتجديد فى الفهم والممارسة ومواجهة المستجدات. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :