إن ملامح المنهج الحركي في تفسير القرآن الكريم ترجع أصولها إلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين والسلف الصالح رضوان الله عليهم؛ إذ هم عاشوا القرآن واقعاً، وتلقوه للعمل، بل قد تمثلت في جيل الصحابة الكرام أمة القرآن بكل خصائصها ومميزاتها، وذلك قبل أن تضعف هذه الروح في نفوس مَن جاء بعدهم. وكان لظهور الحركات الإسلامية فضل عظيم في تأسيس المدرسة الحركية في التفسير في العصر الحديث، وكان هذا المنهج الحركي شعاراً لها في التغيير والتجديد وتحقيق الأهداف الإسلامية الرئيسية من إيجاد الشخصية الإسلامية الكاملة المتوازنة، والمجتمع الإسلامي الذي يصبغ مظاهر الحياة العامة بالفكرة الإسلامية، وإقامة الحكومة المسلمة التي تحكم بشريعة الله، وقيادة الدولة الإسلامية والعالم كله وأستاذية العالم بنشر الدعوة في أنحائه حتى يكون الدين كله لله. ومنهج التفسير الحركي طريقة من طرق عرض هذه المعاني من خلال المعاني القرآنية، ووسيلة من وسائل تحقيق هذه الأهداف، من إيجاد الصلة القوية بين المسلم والقرآن، وتفهيم الناس مهمة القرآن الكريم الحركية الواقعية، وذلك بالعودة إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة السلف من هذه الأمة في فهم القرآن الكريم والتفاعل به والحياة معه عملياً؛ لكي تستقى النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، ولكن لم يظهر هذا المنهج مصطلحاً لدى مؤسس الجماعة، كما لم يكن له نظريات شاملة محددة إلا بعد أن جاء سيد قطب، ووضع له القواعد والمعالم في تفسيره، كما أسس مدرسة جديدة في التفسير تسمى "مدرسة التفسير الحركي". ويرجع سيد قطب -رحمه الله- كيفية تعلم الصحابة للقرآن الكريم وروحه التي سرت فيهم وعملهم بمنهجه الحركي إلى نجاح الصحابة في الانتفاع العظيم بالقرآن، كذلك في تميزه عن الأجيال التي تليه، حيث يقول: "وقد نجح الصحابة في التعامل مع القرآن والتفاعل به؛ لأنهم كانوا لا يستقون إلا من القرآن وحده، وهو النبع الرباني الصافي الذي يتكيفون به، ولأن الرجل منهم كان يخلع على عتبة القرآن كل ماضيه، ويدخل عالم القرآن بدون مقررات مسبقة لتتم صياغته صياغة قرآنية، ولأنهم تلقوه للتنفيذ والعمل لا للثقافة والمتاع، أو التذوق والاطلاع". وقد وردت العديد من قصص الأنبياء والمصلحين والمؤمنين الذين سعوا إلى إصلاح مجتمعاتهم في القرآن الكريم، فكانت بمثابة التجارب العملية للرسول وصحابته في كيفية التغلب على الصعاب المختلفة التي تواجههم في إصلاح وتقويم المجتمع الجاهلي الذي عاشوا فيه، فحياة الأنبياء وأحوال الأمم التي ظهروا فيها تمثل -كل- أنواع وأشكال طرق الإصلاح الديني والاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي، وكذا تمثل أوضاع الأمم التي ظهروا فيها مختلف أنواع الفساد والأعراف والزيغ والأمراض الاجتماعية والدينية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية. فهناك من الأنبياء من بدأ مع مجتمع مسلم، أى كان المطلوب فقط المحافظة على حالته الصحيحة ثم حدث انحراف في فرد أو أفراد مثل آدم وأولاده الأوائل، وهناك من واجه مجتمعاً كافراً أخذ يدعوه دون جدوى - اللهم إلا القليل الذي آمن معه مثل نوح وغيره، ومنهم من واجه إلى جانب الكفر انحراف أخلاقي مثل لوط، ومنهم من بدأ تأسيس أمة - تكون شاهدة على الناس - مثل إبراهيم، ومنهم من واجه إلى جانب الكفر الظلم الاقتصادي مثل شعيب، ومنهم من واجه أمة لديها الدين الصحيح والرسالة والكتاب ولكنهم انحرفوا قليلاً أو كثيراً مثل أنبياء بني إسرائيل أو واجهت عدواً يريد البطش بها مثل أنبياء بني إسرائيل أيضاً - داود مثلاً، ومنهم من وجد نفسه في مجتمعنا لا ينتسب إليه، وكان مطلوباً منه أن يعايشه ويصلحه من داخله فاستخدم أساليب شتى، ووصل إلى وظائف عليا في ذلك المجتمع دون أن يتخلى عن رسالته مثل يوسف، الذي تصلح تجربته نموذجاً للمسلم الذي يعيش في إحدى الدول الأوروبية مثلاً في هذا العصر - مع الفوارق طبعاً، من الرسل مَن انتصر ومنهم مَن انهزم، مَن مات ومَن قتل، وهكذا يتشكل لنا في النهاية أوسع تجربة نستفيد بها في كل حالة وأى حالة. ومن الرسل مَن كان مثل محمد صلى الله عليه وسلم الذي أكمل الله به الدين ونقل إليه وإلى أمته من بعده - بعد أن فقد بنو إسرائيل مقومات استمرارها بسبب فسادها وعنادها - نقل إليه وإلى أمته من بعده واجب الرسالة إلى الناس جميعاً، "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيداً عليكم"، وبالطبع فإن العقيدة الصحيحة والمنهج الصحيح والإسلام الكامل شريعة وعقيدة وممارسة تم على يد محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم الرسل، والاستفادة من تجربة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم واجب بالطبع، خاصة أنها تجربة ممتدة من دعوة للكافرين، إلى إقامة مجتمع للمسلمين في المدينة مع وجود أقليات تعايش معها في البداية مثل المشركين واليهود في المدينة، إلى الصراعات بين دولة الرسول والقوى المشركة في الجزيرة العربية، إنها تجربة تجمع بين تجارب دعوة الكافرين إلى تجارب إقامة مجتمع للمسلمين، إلى تجارب مواجهة المنافقين، إلى تجارب معايشة المشركين واليهود - وثيقة المدينة نظمت تلك العلاقات - إلى تجارب صراع الدولة المسلمة مع غيرها من القوى.. إلخ. وهناك تجارب الرجال الصالحين، مثل الخضر عليه السلام، الذي خرق السفينة ليبيعها - فعلمنا أن نخفي علامات قوتنا عن أعين الظالمين ولعل هذه التجربة لازمة لنا في أحوالنا المعاصرة، حيث كلما ظهرت قوة حركات الإصلاح وحدث نوع من استعراض هذه القوة في نقابة أو انتخابات أو موقع اجتماعي أو خدمى كان هذا دعوة للظالمين للبطش بها وتصفيتها ومصادرتها. وهناك تجارب لأصحاب القوة والبأس ومنهم الملوك، مثل تجربة ذي القرنين في الإصلاح، وكيف استخدم القوة والعلم في إصلاح النفوس والقلوب وتهيئتها لعبادة الله وحده، ونشر العدل، وأخذه بالحزم ضد كل مَن يخرج عن هذه العدالة في الدنيا، وهي تجربة تصلح للحركات الإسلامية بعد توليها مقاليد الأمور، فإن الأخذ باللين والملاطفة مع يريدون نشر البلبلة وروح الهزيمة وإفساد أحوال الناس يفسد الأمور كلها، فلا يصلح في الفترة الأولى من حكم أي دولة سوى الأخذ بالحسم والعزم والحزم حتى تستتب الأمور وتنتشر العدالة ويعرف كل مواطن ما له وما عليه دون افتئات على حقوق الآخرين ودون نكران لتطبيق شريعة الله في أرضه التي بها تعم العدالة. وهناك تجربة أصحاب الكهف الذين فروا بدينهم من ظلم الكفار، بعد أن وجدوا الكفر والفجور ينتشر في المجتمع، وليس هناك شرائح أو أفراد في هذا المجتمع الجاهلي يقفون في وجه الحاكم الكافر الظالم، بل إن المجتمع أصبح يتماهى مع رؤية حكامه المستبدين المنكرين للدين، ففروا بدينهم من هذا المجتمع الجاهلي، ليحافظوا على أنفسهم، وحتى يظل في الأرض أناس يعبدون الله ويسعون لتطبيق دينه وشريعته، وهو ما يذكرنا بدعاء الرسول الكريم في غزوة بدر "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض". ومن خلال ما عرضناه سابقاً لهذه التجارب تتضح الأهمية القصوى للتفسير الحركي من مساعدة الناس عامة على فهم القرآن وتدبره، وتصحيح تصوراتهم وأفكارهم، لإحيائهم بالقرآن. فلا غرو أن كل داع إلى الله تعالى يحتاج إلى هذا النوع من التفسير، لمعالجته مشاكل العصر، وتناسبه مع الأحداث والظروف التي أظلت الأمة الإسلامية، فضلاً عن دعوته المسلمين إلى حسن التعامل مع القرآن تلاوةً وفهماً وحفظاً وعملاً. وإن التفسير الحركي أيضاً ليس خاصاً بجماعة الإخوان أو جماعة إسلامية دون أخرى؛ لأن التاريخ دّل على أن للجماعات الإسلامية العديدة قسماً مشتركاً في تأسيس هذا المنهج التفسيري وتأصيلها، غير أن جماعة الإخوان متقدمة على الأخرى لأسباب، كما سبق الحديث عنه. ومما هو جدير بالذكر أن هناك بعض المآخذ على التفسير الحركي، منها ضعف الصناعة الحديثية مما يخص التفسير بالمأثور والاحتجاج بالأحاديث الضعيفة، ومخالفة آراء جمهور المفسرين في التفسير -كما تمثل ذلك في (الظلال)، 78- والخوض في المباحث التي تكاد ليس لها علاقة مباشرة بمعاني الآية، وبخاصة في محاولة تنزيل النصوص على الواقع وقد تلحظ تلك أي أيضاً في تفسير سعيد حوّي لاستطراده -في بعض الأحيان- في الإسرائيليات وإيراده النصوص من العهد القديم والجديد، وخوضه في التفسير العلمي، قاصداً من ذلك تقريب بعض الآيات على العلوم والمكتشفات الحديثة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :