لا يستطيع قارئ كتاب "أبناء السندباد"، بأي حال، أن يفهم تلك الشخصيات العربية، ويقيس أبعادها الإنسانية، كما رآها ألن فيليرز (مؤلف الكتاب الأسترالي الأصل)، إلا إذا وضع في اعتباره بالدرجة الأولى محيطها الذي تتحرك فيه، ونعني به بوم "فتح الخير" (*)، ذلك المركب الشراعي الذي كان موضع شغف الكاتب ومَعين إلهامه. إذ طالما كانت السفن الشراعية العربية والرغبة في ركوبها والكتابة عنها، أو الحلم باقتنائها، من أهم الحوافز التي حركت الكاتب لخوض غمار مثل هذه الرحلة الملاحية، كون هذه السفن آخر ما تبقى من "سحر الشرق القديم"، على حد تعبيره. وهذا ما كان حين عكف أثناء الرحلة على تدوين هذا الكتاب ما بين عامي 1938 و1939م، والذي بات توثيقاً حياً لحياة السفر التجاري البحري الكويتي في أواخر أيامه، وقبيل اكتشاف النفط. إن بوم "فتح الخير" لا يمثل فقط المحيط المكاني لتجربة الكاتب الغنية، إنما يحمل كذلك ملامح زمن له خصوصيته وظلاله، وله إيقاعه المستأني الفائح بنكهة المحلية الصرفة. والمركب بتلك السمة المكانية والزمانية كان يتيح للشخوص التي تدب على ظهره أن تتلبس أجواءه من جهة، وأن تشع وتتجلى بملامحها الإنسانية المميزة من جهة أخرى. ومن هنا، قد لا يستغرب القارئ ذلك التوحد بين الرجال ومركبهم، بين الحبال والأشرعة والأخشاب الرطبة من جهة، والزنود والعروق النافرة والغناء الشجي المتوحش من جهة أخرى. هذا التوحد والتكامل في صور الحياة وطقوسها هو إحدى ميزات هذا الكتاب، وإحدى نوافذه الواسعة التي كانت تتيح أكبر مجال للرؤية والاستشراف والتقييم. وهكذا، يظل الكاتب، رغم واقع الاختلاف في التكوين والثقافة والرؤية، محافظاً على قاعدة ذهبية حاول جاهداً أن يلزم نفسه بها، وهي ضرورة التعاطف والتعايش أولاً، ثم فهم المسوغات والتبريرات ثانياً، ليتسنى له بعد ذلك التعلم وجمع المعلومات والمعارف. ولعل سمة التعاطف لم تقف لديه عند حد العناية بالمرضى منهم، وتقديم ما يملك من أدوية وإسعافات أولية ونصائح مفيدة، إنما يتضح ذلك أيضاً في نظرته الراثية المشفقة على حال بعض الركاب المسافرين ورثاثتهم ورقة حالهم وكفافهم في المأكل والملبس والراحة، وخاصة أولئك البدو المسافرين من حضرموت إلى ممباسا. ولعل شعور الشفقة والرثاء لدى الكاتب كان قد بلغ مداه وهو يعاين بعض المشاهد التي رأى بها المرأة! فأول عهده برؤية النساء على ظهر "فتح الخير" يتمثل في مشهد نقل النساء المسافرات من حضرموت: "ما هذا؟ لقد كان شيئا غريبا يحدث في ذلك الجو غير العادي. فقد لاحظت أنهم كانوا يواصلون حمل رزم طويلة غريبة ملفوفة بالسواد، وينقلونها واحدة بعد الأخرى بشيء من العناية إلى حيث تختفي في الحال بالظلام المخيم تحت المؤخرة، وكان من الواضح أن تلك الرزم كانت تخزن في القمرة الكبيرة... فكررت السؤال مستفسراً عن تلك الرزم، فأجاب وهو يجري: بنات. ماذا بحق السماء؟ نساء؟! لابد أنهم نقلوا حوالي خمس عشرة من تلك الرزم. مسكينات هؤلاء الفتيات، لقد كنَّ كبقية الفتيات صغيرات الحجم، ثم رأيت فيما بعد واحدة منهن تسقط من اللفة التي كانت فيها، وفي الحال هبَّت واقفة وجرت برشاقة وهي تُمسك بالحجاب أمام عينيها إلى الباب الذي كان يؤدي إلى السجن، ولم أفهم ما الذي كان طيباً أو حسناً في ذلك المكان سوى أنه مكان لعزل الجنسين عن بعضهما، إذ يبدو أن الذكور والإناث في الجزيرة العربية يجب أن يفصلا عن بعضهما بأي ثمن، حتى لو مات بعضهم ثمناً لذلك، وقد مات البعض منهن فعلاً على ظهر فتح الخير قبل أن تأتي الرحلة إلى نهايتها". (*) سألتزم بتسمية بوم "فتح الخير" كما جاء في نص كتاب "أبناء السندباد" لمؤلفه ألن فيليرز، الصادر في طبعته الأولى، عام 1982، مطبعة حكومة الكويت، وترجمة نايف خرما. وقد دار حوار بعد ذلك حول كون البوم المعني هو بوم "بيان"، وفق رواية علي النجدي، نوخذة البوم، وليس بوم "فتح الخير".
مشاركة :