إلياس فركوح روائي وقاص ومترجم وناشر أردني، استطاع أن يخرج بأعماله من ضيق الرؤية السياسية إلى كل ما هو إنساني، بنزعة تجريبية وطاقة إبداعية. من أعماله «أرض اليمبوس»، «أعمدة الغبار»، «ميراث الأخير»، «غريق المرايا»، «حقول الظلال»، «الملائكة في العراء». هنا حوار معه: > أين تجد نفسك أكثر في خضم هذه الانشغالات والاهتمامات؟ -إذا كنتُ على هذا التعدد من الانشغالات والاهتمامات، فالمَرَّدُ والحالة هذه أنّ كلّ واحد منها أوْجَدَ لنفسه موقعاً فيَّ كذاتٍ هي متعددة أيضاً في أبعادها. ذات متعددة الطبقات، ليست سطحاً واحداً، وبالتالي فإنَّ عدداً من الطموحات التي أتوق إلى تحقيقها تبرز بإلحاح، فأتصدى لها. عند تنحية المترجم والناشر فيَّ (إلى حين)، ومعاينة بقية الانشغالات، فلسوف نجد أنها تنتسبُ إلى جذر واحد، ألا وهو السرد. السرد القصصي المتمثّل في القصة القصيرة والرواية، مجالين انتهيا إلى أنْ تداخلت تخومهما في كتابتي، حيث أدّى الأوّل إلى الثاني والاستقرار فيه، بعد سنوات من المراوحة بينهما. بدأتُ قاصاً ولم تكن الرواية حينذاك أكثر من طموح مؤجَّل، وها أجدني روائياً بعد أن بلغتُ بـ «قصتي» انفتاحاً أخرجها من حدودها، وأطلقها في فضاء النصّ المنفلت من التأطير. أما الترجمة؛ فانشغالٌ نبع من محبتي إشراك سواي في نصوص لفتتني، ثم تراكمت مع الوقت متوزعة على قصص وحوارات وإبداعات أخرى. وكذلك النشر: الانطلاق من نقطة «المحبة»، محبة الكتاب، وإخراجه بأجمل شكل وأرصن محتوى. وهكذا نرى أن تلك الانشغالات ما هي إلا طبقات ذاتي، وأنني أجد نفسي في كل واحدة منها لحظة الانخراط في تحقيقها. > بدأت النشر عقب هزيمة 1967، بكتابة قصة قصيرة تعبر عن واقع الهزيمة. برأيك، هل ما زالت هزيمة حزيران (يونيو) تلقي بظلالها على العالم العربي أم تم تجاوزها؟ - نعم، هزيمة 1967 ما زالت «تفرّخ» ويلاتها بتجليات مختلفة، وأساسها التركيبة الفوضوية العشوائية لكل الأنظمة العربية المسؤولة عن تلك الهزيمة. أنظمة قِوامها الاستبداد، والفساد بشتى معانيه، والارتهان لمصلحة الأقلية على حساب أكثرية الشعب، وطغيان الفرد/ الزعيم طارداً بذلك الديموقراطية الحقيقية، وإنْ أوْجَدَ «ديكورات» برلمانية تمثيلية زائفة بالضرورة، وتصحير الحياة السياسية بإفشال محاولات تكوين أحزاب ذات برامج تنموية حقة. وهذا كله خلق مجتمعات خالية من مضامين «المدنية» و «المواطنة»، وما شهدناه ونشهده منذ «الربيع العربي» خير دليل على اجتهادي. > هل تعتقد أن الإبداع الحقيقي يولد من رحم المعاناة؟ - أنا لم أعد أدرك عمق أو دلالة كلمة «معاناة» حين استخدامها في الحديث عن الإبداع، وهو استخدامٌ باتَ أشبه بـ «كليشيه» يحتاج إلى تعريف وتحديد. من جهتي، أعتقد أن الإبداع هو نتاج استغراق الكاتب في تأمل مسألة ما تؤرقه إلى درجة أنه، لكي يستبين أعماقها، يلجأ للكتابة ليطرح من خلالها أسئلته محاولاً إدراك إجاباتٍ ما. فالمعاناة، على هذا النحو، تتصل بمستوى تفكري معرفي ثقافي، وبعلاقة حميمة مع الجنس الإبداعي الذي تَمرَّس به صاحبه، وببُعدين: محاولة تفكيك المسألة قيد التفكُّر بالكتابة، والإضافة الفنية للنص الجديد بوصفه «مشروعاً خاصاً». > بدأت مشوارك بكتابة القصة القصيرة. كيف تقرأ واقع القصة في ظل طغيان الرواية؟ - القصة القصيرة تزدهر وتتحول ما دام ثمة مَن يكتبونها، وبخاصة لدى كُتّاب ينتمون إلى أجيال جديدة. وهذا أمر بديهيّ يصلح ليكون قاعدة تستوي عليها الأجناس الأدبية كافة، بصرف النظر عن احتلال الرواية المشهد الإبداعي عموماً، والسردي خصوصاً. إن ما يطفو على السطح ليس، بالضرورة، هو الأكثر تطوراً – بل أجتهدُ بأن ما يبدو «هامشياً» ربما يتحلى بجرأة التجاوز وتخطي السائد والمألوف. وهنا علينا التفريق بين واقعين: واقع الرواية أو سِواها من أجناس كتابية في الإعلام والمقروئية والاحتفاء الاجتماعي، وواقع تلك الأجناس داخل مجالها الفني وتحولاتها فيه. > «غريق المرايا» هو عنوان روايتك الأخيرة، والرواية ترسخ فكرة التعدد والتنوع وقبول الآخر في ظل عالم يتجه نحو القوميات والانكفاء على الذات، بدليل صعود اليمين المتشدد في أوروبا واستفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، وظاهرة ترامب؟ - أراني من المؤمنين بأن التعدد والتنوع، باختلاف أبعاده وتجلياته، إنما هو إغناءٌ أكيد للمجتمعات، وإثراءٌ للفكر، وتطبيعٌ للعلاقات بين البشر المختلفين في معتقداتهم الدينية، أو انتساباتهم الإثنية، أو مراجعهم الثقافية، أو انحيازاتهم الأيديولوجية. وفي النهاية، فإن المجتمع الجامع لكل هذه «الاختلافات والتباينات»، وبحكمة التوازن الهادف إلى نفي التخوفات لدى هذه الفئة أو تلك؛ لا يمكن إلا أن يكون مجتمعاً مدنياً مرجعه القانون والعدالة. والدولة التي ترعى مصلحة هذا المجتمع لا تستقيم إلا ببنائها قواعد الديموقراطية الحقة بإفساحها كل مجالات التعبير، والقبول بالمعارضة، والرضوخ لمنطق انتقال السلطة على أساس الرجوع للشعب واختياراته. هل هذا «يسار»، بالمقابل من اليمين المتطرف الصاعد في أوروبا والولايات المتحد متمثلاً في ترامب؟ أبداً. نحن، فقط، نتحدث عن أسس واجبة في بناء مجتمعات متصالحة مع تكويناتها المختلفة. مجتمعات متصالحة مع نفسها. ولسنا في شأن مناقشة الأعماق الاقتصادية، والفوارق الطبقية، والتوسعات الإقليمية، وأخطبوطية الشركات العملاقة العابرة للقارات والمستنزفة لمصادر الحياة والشعوب. > ما تقييمك لنشاط الترجمة من وإلى العربية؟ وكيف تختار النصوص المفيدة للقارئ العربي؟ - الترجمة إلى العربية محكومة إما باختيارات المترجمين الشخصية، المستندة إلى اهتماماتهم ومجالات اختصاصاتهم، أو بما يراه الناشر مجزياً على صعيد التوزيع، ونادراً ما نجد مراكز ومؤسسات ترسم خطط نشرها بناءً على احتياجات المجتمعات العربية. أعني: احتياجات القطاعات الأوسع داخل المجتمعات، وليس الفئة المثقفة التي هي، في الحقيقة، ضيقة وليست ذات تأثير فعلي في الوعي المجتمعي. فالترجمة، كما أفهمها، وسيلة وغاية معاً. وسيلة، للاطلاع الدائم على المستجدات الفكرية لدى الثقافات الأخرى، من أجل التزود بالمعرفة وعدم الانقطاع عنها. وغاية، كونها تشكل ضرباً من ضروب التثاقف والامتزاج المُثريين للمتوافر في ثقافتنا، حيث يغتني النص العربي بأبعاده الكونية. أما الترجمة من العربية؛ فلا شيء يمكن ذكره هنا على الإطلاق! اللهم إلا إذا تطرقنا إلى بضعة نصوص روائية غالباً، نالت «حظوة» لسببٍ أو لآخر، وظلت حبيسة الجامعات ومراكز الأبحاث الخاصة بالشرق عموماً والشرق الأوسط خصوصاً، ولم تتعدَ في مقروئيتها دوائر أناس لا يتجاوز عددهم بضعة مئات على أحسن تقدير! غير أن سؤال الترجمة من العربية يضطرني لأن أسأل: ماذا أضفنا فعلاً إلى شتى المعارف في شتى التخصصات يستحق أن يُترجَم؟ غالباً ما تكون اختياراتي بناءً على اجتهادي الشخصي، وهذا بالطبع لا يكفي أبداً وإنْ نالَ استحساناً من البعض. كما أستأنس باقتراحات أصدقاء. لكن هذا كلّه لا يغطي حقيقة ما هو مفيدٌ للقطاعات الأوسع في المجتمع. فأنا ما زلت أتحرك داخل دوائر فئة صغيرة من المثقفين. والأمر راجع إلى انكفاء الناس عن القراءة عموماً، وعلينا الإقرار بهذا النقص المعرفي الفادح في مجتمعاتنا. نقص أسبابه مركبة، ومخرجاته خطيرة في إفقار إنساننا على المستوى الثقافي المؤهِّل لأن يفهم العالم كما هو من دون أحكام مسبقة، وأن يفهم نفسه بلا أوهام. > دخولك مجال النشر؛ ألم يكن مغامرة محفوفة بالأخطار في ظل تراجع القراءة في زمن السوشيال ميديا؟ - النشر أحد جوانب المحبة للكتاب، كما سبق وذكرت في سياق سابق. غير أن مسألة كونه يشكل مغامرة محفوفة بالأخطار؛ فليس بسبب طغيان السوشيال ميديا والتهامها لوقت واهتمام الأجيال الجديدة فقط، أو لتراجع القراءة على نحو كبير داخل المجتمعات العربية- بل لأني أفتقد العقلية التجارية أساساً. وهنا تكمن «مغامرتي» التي، ومع استمراري في العمل في هذا المجال، تحوّلَت إلى «مقامرة» صريحة. فالأرباح الهزيلة (إنْ تحققت فعلاً) لم تشكّل قوةَ دَفْعٍ لي، بقدر ما كان تمويلي الشخصي للدار عند كلّ أزمة تمرّ بها سبباً للمواصلة وسط الظرف العام المعاكس. وهذا التمويل عبارة عن قروض أو تسهيلات بنكية مقابل رَهْن عقار! وإذا كان لي أن أصف مبرر الاستمرار بينما تعصف بالنشر تحديات الإدبار عن القراءة والتهديدات بالإفلاس الوشيك؛ فلا يسعني إلا أن أواصل العِناد، والمكابرة! > هل وصلت إلى نقطة التوازن التي سعيت إليها في روايتك «أرض اليمبوس»؟ - في كل مرة، وإثر انتهائي من كتابة نص جديد، وبعد انقضاء وقت على ذلك، أجدني حيال «نقصٍ ما» لم تستوفه تلك الكتابة! والنقص هنا يعني عدم الوصول إلى «نقطة التوازن»، التي تعني «الاكتمال»، أو تحقق عناصره. ففي رواية «أرض اليمبوس» تحديداً، رددتُ على لسان شخصية أبي عبارةً رأيتُ فيها واحدة من حِكَم الحياة: لا شيء يكتمل. فالمشاريع الإبداعية لا تكتمل إلا ظاهرياً كنصوصٍ لها بداية ونهاية ومطبوعة بغلاف جميل، غير أن في كل نص منجز ثمة آخر يتولَد من رحمه ينتظر الوقت الكافي لخروجه، وهكذا. من هنا يصبح الاكتمال مستحيلاً ما دام الكاتب على قيد الحياة وعلى قيد الكتابة معاً. «أرض اليمبوس» أكمَلَت الثلاثية غير المُعْلَنة التي بدأت بـ «قامات الزَبَد» و «أعمدة الغُبار»، لكنها مجرد خطوة تبعتها أخرى بعد سنوات تمثلت في «غريق المرايا»، الرواية/ المتوالية السردية التي عادت بالزمن إلى ما وراء مراحل الثلاثية. وهذا يشير إلى أننا رهائن زمن مضى إذا لم «نكتبه»، فلسوف يُحبِطُ نصوصَ زمن اللحظات الراهنة، التي تستحيل إلى ماضٍ... وهكذا. فأين نقطة التوازن؟ > ما الرواية التي تمنيت أن تكتبها في شكل مغاير؟ - لستُ من الذين يندمون على نص نشرته ثم اكتشفتُ بأني كنت قادراً على كتابته على نحو أفضل. كل نص إنما هو وليد لحظات كتابته، ونتاج حالات عشتها وظروف مررتُ بها، وهذا كله غير خاضع لإعادة التدوير، فكأننا نريد إعادة عقارب الزمن إلى الوراء - وهذا عملٌ أحمق، فلنترك ما كتبناه ونشرناه على حاله، وإنْ شابته نواقص أو عثرات، لأنه بذاته شاهدٌ وشهادة علينا في محطة من محطات مسيرتنا الأدبية. > «رسائلنا ليست مكاتيب» عنوان كتاب أثار الجدل على الساحة الثقافية العربية لأنها رسائل متبادلة مع صديقك الراحل مؤنس الرزاز. ما جدوى كتاب رسائل من طرف واحد من دون انتظار الرد عليها من الطرف الآخر؟ - «رسائلنا ليست مكاتيب»؛ كتابٌ مغايرٌ لمألوف أدب التراسل؛ إذ امتزجت فيه عناصر من السيرة الذاتية، والاعترافات، والمراجعات الفكرية والسياسية والأدبية، والبوح الشخصي الحميم، ونقد الذات والغير، وتأمل الراهن. وإذا كانت رسائل مؤنس الرزاز متوافرة داخل الكتاب، كوني احتفظت بها، بينما رسائلي إليه فُقِدَت، فذلك أمرٌ بررَ كتابتي لـ «نصوص» على هيئة رسائل كانت، في العمق منها، استعادة الماضي الذي اشتركنا في كثير من حيثياته، الثقافية والكتابية والحزبية. وهذا الماضي المستعاد، ولغاية فهمه واستيعاب مجرياته وموضعتها، كان لا بد من مواجهته مع الحاضر الراهن على سبيل المقارنة. عندها؛ يسهل على قارئ الكتاب من الأجيال الجديدة الإحاطة بمرحلة جرى ويجري تزويرها، أو التلاعب بها، أو التعتيم عليها. ومن هنا نعثر على إجابة سؤالك: «ما الجدوى...؟» > ما نوع الكتابة التي تطمح إليها في سن السبعين؟ - أنا أكتب ما أحياه وأعيشه، هكذا ببساطة. وما أعيشه يُكتب وفقاً لطبيعة التجربة المختمرة وقد فاضت، فأتلقفها على الفور كي لا تضيع أو تتبدد. أما نوع هذه الكتابة؛ فالأرجح أن تكون نصاً جامعاً لأكثر من جنس أدبي، نصاً أسكبُ فيه خلاصة خبرتي الكتابية لأغايرَ فيه كل نصوصي التي تتباين عن بعضها، أي: أن يتسم بالاختلاف، والجِدَّة، والاجتراح. أن يكون نصاً «نسيج وحده». إنّ أكثر ما أنفرُ منه هو «المَثيل» و «الشَبيه» و «المُكرر» و «المألوف». الأرجح أن لا يكون رواية، وربما يكون رواية؛ لكنها بِسِمات تخصّها. لا أعرف بعد. وإذا جاءني أحدهم ليقول لي: أنت روائي، فاكتبْ روايتك. فلسوف أجيبه: لستُ موظفاً في «مؤسسة» الرواية بعقدٍ أبدي، أو سِواها من «المؤسسات» الأدبية المستقرّة. المتون الأدبية ليست مغلقة، فلنقتحمها بنصوصٍ تولدُ من الهوامش.
مشاركة :