هذا المقال لا أكتبه لقارئ هذا الصباح. وإن كان لا مانع لديّ من أن يشارك في الاطّلاع عليه. هو مكتوب لقارئ سيطّلع عليه بعد أعوام قليلة قادمة. ستلاحظ عزيزي القارئ كثيراً ممّن حولك قد تغيّرت لغتهم، وتغيّر سلوكهم، وتغيّرت أفكارهم. بدءاً من رفاق يومك وانتهاء بنجوم ومشاهير تعوّدت على متابعتهم. سيكون الناس أكثر تسامحاً أو ربما أكثر انفلاتاً بحسب زاوية رؤيتك. ولكنهم سيتغيرون رغماً عن تلك الزاوية على كلّ حال. تقول الكاتبة صفاء علي «لا مشكلة لديّ في تغير القناعات إنّما مشكلتي في تغيّر الأقنعة». ولكن ما هو الفرق بين تغير القناعة وتغيّر القناع؟ وهل تمييزه متيسّر للجميع؟ لعل (تغيّر القناعة) الذي تشير إليه العبارة هو التخلّي بشكل صادق عن فكرة قديمة لصالح فكرة أكثر حداثة. في حين أنّ (تغيّر القناع) لا يلزم فيه الصدق بل يكفي فيه ترك التعبير عن فكرة فقدت بريقها، والجنوح إلى التبشير بفكرة أخرى لها حظٌ أكبر من القبول. يتمّ تغيّر القناعات عادة على نحو بطيء ويصادف الكثير من التحديات، فانعتاق المرء من تحيزاته بشكل فرديّ أمرٌ بالغ الصعوبة، وهذا ما لا يدركه الناس الذين يركنون إلى مألوفاتهم وما اعتادوه من أنماط تفكيرهم. كما أن أغلب من تتغير قناعاتهم واعون بما تركوا، مدركون لما يعتنقونه، قادرون على الاحتجاج لصالح انتقالهم منطقياً، لكثرة ما أجروه مع أنفسهم من حوارات داخلية. وربّما أهم مؤشرات متغيّري القناعة قدرتهم على التعاطف مع حاملي قناعاتهم القديمة، كأنما يهمسون لأنفسهم «كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم». (تغيّر الأقنعة) يحدث عادة كاستجابة سريعة لإغراءات المحيط أو ضغوطه، ولأنّه لا يتطلّب محاكمات داخليّة يجريها المرء بينه وبين عقله أو وجدانه، فإنّه كثيراً ما يكون هشّاً أمام النقاش الجادّ والجسور. يلجأ مرتدو الأقنعة عادةً إلى الخطابة وترديد العبارات المؤثرة المكرورة لا غير. كما أنّهم كثيراً ما يلجؤون خشية الافتضاح إلى المزايدة فيكونون أكثر قسوة وتعنّتاً في تعاملهم مع ممثّلي أقنعتهم التي هجروا من قبل. ولكن هناك مفهوم آخر للقناع قد يبدو أكثر خفاء من هذا المفهوم. وهو المفهوم الذي أسّسه عالم النفس المعروف (كارل يونغ) ويقصد به الشخصية التي يصافح المرء بواسطتها محيطه لمجرّد الاتساق معه وخشية النبذ منه. مرتدي القناع عند يونغ ينظر إلى قناعه بنفس الطريقة التي ينظر بها الآخرون إليه، فهو لا يدرك زيفه بل يتصوّر أصالة شخصيته المتمثلة به، بينما الأمر خلاف ذلك على الأغلب. نحن لسنا كائنات منطقية تماماً كما أننا غير مخلصين لضميرنا الفردي على الدوام. هناك الكثير من المؤثرات التي تدفعنا لمسايرة ما حولنا وتغيير أفكارنا دون اختبارها أو التحقق منها. بل قد يتحول المنطق أحياناً إلى مجرد آلة تبريرية لدعم ما تمّ اعتناقه سلفاً. كما أنّ الذاكرة قد تؤدّي دوراً مسانداً لتلك الأفكار أيضاً من خلال التحريف اللا واعي لأحداث الماضي. يحدث أحياناً على سبيل المثال أن يجادلك صديقك بأنّه لم يكن من القائلين بتحريم الدش أو جوّال الكاميرا، وأنّه لم يقف مرة واحدة موقفاً متعنتاً منهما، ولكنّك في المقابل متأكّد أنّ كلامه غير صحيح. إنّه لا يكذب بالضرورة، لقد نسي بالفعل! كما أنّ نسيانه هنا ليس من نمط النسيان العاديّ الذي قد يطرأ علينا باستمرار. إنّه نسيان من نوع خاص، نسيان تتبرّع به الذاكرة الداعمة للقناع الذي نشأ من أجل حفاظ صديقك على درجة من الاتساق النفسي بينه وبين مجتمعه. فالقناع يحميه من الشعور بالتناقض المقلق الذي قد يتعثّر به عن سد احتياجات حياته. على الأقلّ هو مفيد له من هذا الجانب. تتكون قناعات الجماهير بحسب يونغ تبعاً لتكوّن أقنعتهم السيكولوجية. ذلك بخلاف الحال عند بعض أرباب المنابر ممّن لا يكلّفهم الأمر سوى استبدال قناع بآخر بشكل إراديّ تماماً لا يتطلّب تفسيره اللجوء إلى يونغ أو استدعاءه.
مشاركة :