وقعت حركة «أحرار الشام» ضحية قصر نظر قيادتها في تعاطيها مع التطورات السياسية والميدانية، وانتهازيتها وتكتيكاتها المخاتلة في إدارة الصراع والتنافس مع الأصدقاء، ناهيك بـ «ابتهاجها» بمكاسب ميدانية وتنظيمية ومالية هزيلة جنتها على حساب مآسي أخوة السلاح الذين اضطرتهم التطورات الميدانية إلى قبول حماية «الأحرار» من بطش النصرة أو الاندماج معها بعد هزيمتهم على يد الأخيرة. لقد اتضح قصر نظر قيادة «الأحرار» وسذاجتها من بداية الثورة حين لم تدرك طبيعة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، على رغم المؤشرات الصارخة التي جسدتها عملية الانقسام داخل جبهة النصرة وبروز التنظيم و»فجوره عند المخاصمة»، وفق التعبير الإسلامي التقليدي، فاعتزلت القتال بينه والجيش السوري الحر في الرقة، تحت ذريعة عقائدية: عدم مقاتلة أخوة المنهج، واستمرت على موقفها على رغم قيام «داعش» بإعدام 130 من مقاتليها اعتقلهم وهم يغادرون ساحة المعركة في الرقة، وركونها إلى مصفوفة عقائدية أسمتها «مشروع أمة» لا تنطوي على برنامج محدد بل على عموميات ومواقف نمطية سبق وأطلقتها حركات السلفية العلمية (= النظرية) والجهادية في خططها لإقامة ما تسميه «شرع الله»، في تجاهل تام لطبيعة المعركة والساحة ومستدعياتها السياسية والميدانية. لم تكتف «الأحرار» بالصمت عن ممارسات النصرة وتدخلها في حياة المواطنين اليومية في المناطق التي تسيطر عليها (إلزامهم بارتداء اللباس «الإسلامي»، منع النساء من السفر من دون محرم، منع الموسيقى والغناء، منع رفع علم الثورة إلخ...)، بل وقفت موقف المتفرج من قيام جبهة النصرة بتصفية فصائل معارضة من الجيش السوري الحر (جبهة ثوار سورية، جبهة حق المقاتلة، عام 2014، جبهة ثبات المقاتلة، ألوية أبو العلمين، اللواء السابع قوات خاصة، حركة حزم، الفرقة 30، عام 2015، تجمع فاستقم كما أمرت، والفرقة 13، عام 2016) أو من الفصائل الإسلامية الصغيرة (جيش المجاهدين وثوار الشام والجبهة الشامية، عام 2017)، والاستيلاء على ما تحت أيديها من أسلحة وسيارات وأموال ومقار، وانتهزت فرصة انهيارها كي تفوز بالتحاق بعض هذه الفصائل، أو بعض من عناصرها، بصفوفها، ولم تجد غضاضة، على رغم كل هذه المؤشرات السلبية، في الدخول في تحالف معها (جيش فتح الشام) ومشاركتها في بسط السيطرة على محافظة ادلب وبلدات وقرى في ريفي حمص وحماة. لم تدرك قيادة «الأحرار» دلالة التطورات الميدانية، أو تغاضت عنها لاعتبارات عقائدية أو لحسابات خاطئة، وما نجم عن تفكيك جبهة النصرة لعشرات الفصائل، وابتلاع إمكاناتها العسكرية واللوجستية، من توازن قوى يميل لمصلحة الأخيرة، ولا ما ستفرزه من سلبيات عليها، وعلى الصراع في سورية وعليها، حتى بعد أن حاق بها الويل والثبور بانشقاق التيار السلفي فيها والتحاقه بـ «هيئة تحرير الشام» وعمادها «جبهة فتح الشام»، النصرة سابقاً، على خلفية الموقف من مفاوضات أستانة، لعل التيار الإخواني الذي استلم زمام القيادة في الحركة ارتاح لانشقاق التيار السلفي الذي سبق ولعب دوراً معرقلاً أمام تنفيذ طلبات الدول الراعية بالانفصال عن الجماعات المتطرفة وتعديل الخط السياسي باستبدال توجه وطني سوري بالتوجه الإسلامي، فكانت النتيجة ما حصل في الأيام القليلة الماضية من قتال راح ضحيته بحدود المئة مواطن بين عسكري ومدني، وخسارة «الأحرار» لأكثر من ثلاثين بلدة وقرية، ناهيك بخروجها من مدينة إدلب، مركز المحافظة، والتحاق بعض ألويتها بهيئة تحرير الشام، قاطع البادية ولواء الفتح كفرنبل، وتنازلها عن إدارة معبر باب الهوى الذي كان يدر عليها أموالاً طائلة من الضرائب التي كانت تفرضها على المواد الغذائية الآتية إلى الأراضي السورية من تركيا. * كاتب سوري.
مشاركة :