وراء كل حوات في المغرب "بري باري" بقلم: فيصل عبدالحسن

  • 7/31/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

وراء كل حوات في المغرب بري باريعلى إيقاع تسارع الحياة في المدن، ظهرت مهن جديدة كانت تقوم بها في السابق ربات البيوت، لكنهن اليوم أصبحن يعملن ولا وقت لديهن للشؤون الشاقة في البيت، بل أنهن لا يتقن هذه الأعمال المنزلية ولم يتعلمنها لأنهن كنّ منشغلات بالدراسة، فتنظيف السمك مثلا أصبح مهنة في الأسواق يقوم بها الرجال مقابل أجر زهيد تدفعه ربات البيوت لأنه يعفيهن من عمل شاق يأخذ الوقت والجهد.العرب فيصل عبدالحسن [نُشر في 2017/07/31، العدد: 10708، ص(20)]لا تنازل عن وجبة السمك الرباط - المغرب من البلدان العربية القليلة التي يبتكر فيها الشباب مهنا تساهم في توفير مورد رزق للكثيرين منهم، خاصة أولئك الذين لم يجدوا عملا في القطاع العام والخاص، رغم أن معظم هؤلاء من الحاصلين على تعليم ثانوي وجامعي، فهم لا يخجلون من العمل في الكثير من الأعمال المؤقتة. أعمال لا يستطيع أمثالهم في بلدان أخرى القيام بها، وهي في غير اختصاصاتهم التي درسوها ونالوا فيها شهادات. وما أن تضع قدميك في أحد الأسواق الشعبية بمدينة الرباط أو الدار البيضاء وسائر المدن الأخرى، إلا وتجد الكثير من هذه المهن المؤقتة. بسطة على الأرض، وشاب متعلم يسمى “الحوّات” يبيع السمك بمختلف أحجامه وأنواعه وبجواره شاب آخر يسمى البري باري، وتعني التسمية منقي الحوت ومنظفه، وقد تم أخذها من اللغة البرتغالية. الشناقة وراء غلاء الأسعار الحوّات هو مقصد الكثير من الزبائن المغاربة الذين لا يتنازلون عن وجبة السمك مهما كانت حالتهم الإجتماعية، فلذلك تجد من يساوم بائع السمك على الأسعار المشطة حسب رأيهم، وفي كثير من الأحوال يخفض السعر لهم بعد مداولة قصيرة، معتذرا لهم عن السعر الجديد، الذي يعزوه إلى مضاربات سوق الأسماك ودور “الشناقة ” أي سماسرة سوق الجملة في رفع الأسعار. خالد أبوالحسن (35 سنة) بائع أسماك بسوق التقدم بالرباط، يقول لـ“العرب عن أسعار الأسماك التي يعرضها على بسطته، “بعنا السردين اليوم بـ12 درهما ما يعادل 1.26 دولار، وهو سعر أقل من أسعار السوق، فغيري يبيعه بـ15 درهما (1.57 دولار)، أما أسماك الشرن، فابيع الكيلو منها بـ13 درهما وسمك موسى، فأبيعه بـ18 درهماً للكيلو، وأنا اقنع برزق قليل تحل فيه بركة دعاء زبائني لي”. ويستطرد أبوالحسن قائلا، “يزوّدني بالأسماك الطازجة صاحب صندوق السمك المعزول حراريا، الذي تسحبه دراجة نارية وينتقل بين سوق الجملة والذي يتجوّل في سوقي النهضة والتقدم لتزويدهما بحاجة التجار من الأسماك”. ويؤكد أبوالحسن ارتفاع أسعار بعض أنواع السمك في الفترة التي أعقبت شهر رمضان من هذا العام، فيقول “يعود السبب في ارتفاع الأسعار هذه السنة إلى تزايد طلب الزبائن عليها. وثبات المعروض في سوق الجملة، ووجود ‘شناقة’ يحققون أرباحا يومية مهمة من خلال التوسط بين تاجر الجملة، وأصحاب الصناديق المتنقلة، المزودين لباعة الأسواق بالأسماك”.خبرة تفوق خبرة السيدات ويضيف خالد “وفر بيع الحوت لي ولعائلتي موردا ماليا محترما، وما أكسبه يوميا من بسطتي أفضل من مكسب أي وظيفة يمكن أن اعمل بها، وقد حصلت على شهادة البكالوريا منذ سنوات. وبحثت عن عمل بشهادتي، لكنني لم أجد وظيفة، وقد أرشدني صديق (صاحب زورق) يعمل في مجال الصيد البحري إلى هذه الحرفة، وعلمني أصولها. وعرفني على مزود أسماك متنقل. والحمد لله اعمل في السوق منذ عشر سنوات، واسأل الله أن يحسن لمن أرشدني لهذا العمل، لقد عشنا مستورين طيلة السنوات الماضية بفضل نصيحته وجهدي”. سعيد الدكالي (35 سنة)، بائع سمك في عربة متنقلة معزولة حراريا، تدفعها دراجة نارية يقودها في سوق لقريعة بالرباط يقول عن المضاربين، “الشناقة مجموعة من الوسطاء والسماسرة تجدهم عادة في سوق الجملة في الميناء بالدار البيضاء أو في المنافذ الأخرى لبيع الجملة في الرباط أو في غيرها من منافذ البيع. وهم في العادة طفيليون يعملون في كل ما يدر عليهم ربحا سريعا. فيشترون ما يتم صيده من أصحاب زوارق الصيد، وبدلا من توجيهه للسوق بشكل مباشر، فهم يبيعونه لغيرهم من السماسرة لقاء ربح معين. وهؤلاء يحملونه معلوما إضافيا جديدا قبل بيعه، وبهذه الطريقة ترتفع أسعار السمك في الأسواق فتثقل كاهل المواطن العادي”. ويستطرد الدكالي، “لا تظهر الزيادة الكبيرة في الأسعار إلا في الأسواق النموذجية لبيع الأسماك بالدار البيضاء، والرباط وأسواق السمك في أسواق ‘لابل في’. وهي أسواق استهلاكية كبيرة تقع في مراكز المدن، أما في بسطاتنا الشعبية، فزيادات الأسعار لا تكون كبيرة. كوننا نراعي في ربحنا إمكانيات الزبون الذي يكون عادة من الشرائح الاجتماعية الضعيفة، لأننا لا نؤدي أجور المحلات النموذجية، ولا ندفع ضرائب أو فواتير ماء وكهرباء”. البري باري مهنة بأجر زهيد بجانب بائعي السمك في البسطات والأسواق الكبيرة عادة ما تجد مساعدا أو أكثر لبائع السمك يطلق عليه اسم البري باري وتقتصر مهمته على تنظيف السمك وتقشيره. البري باري يمارس عمله على بسطة متواضعة وتحت مظلة تقيه حرارة الشمس، وإلى جانبه سكين ومقص يستخدمهما لتنقية الأسماك من الأحشاء، ونزع الأشواك، والأصداف والجلود عنها، وتقطيعها حسب طلب الزبون. حركاته سريعة ومرنة، وكل ذلك لقاء أجر زهيد من الزبون لقاء هذه الخدمة التي توفر لربة البيت وقتا كثيرا. يقول سعيد الأمراني (25 سنة) الذي يعمل بري باري، وعونا لبائع سمك بسوق التقدّم بالرباط للعرب، “إنَّ تنقية السمك وتنظيفه فن لا يعرفه الجميع. وكثير من ربات البيوت لا يجدن الوقت الكافي لتنظيف وتقطيع السمك وفق نوع الطعام، الذي سيتم إعداده للعائلة”. ويشرح الأمراني كيفية عمله قائلا، “طريقة تقطيع السمك، الذي يعدّ للشواء، هي غيرها إذا كان يعدّ السمك كطاجين، أو كمبخر، أو لإعداده للبسطيلة، أو لتخليله، أو تمليحه وتتبيله، لتركه في فريزر الثلاجة لأيام قادمة. وربة البيت حين تعيد إخراجه لطهيه تجده بالطزاجة والطعم ذاته، وكأنما تمّ صيده من البحر في اليوم ذاته”. ينشغل الأمراني خلال حديثه بتلبية الطلبات الكثيرة عليه، لتنقية أسماكهم التي اختاروها ودفعوا ثمنها الى البائع، وتعمل أصابعه، وكفه بدربة في قطع وإخراج أحشاء الأسماك وتنظيفها، وإزالة الحراشف. وبعضها كما في السردين يزيل الهيكل العظمي للسمكة بكامله عنها، ولا يكتفي بذلك بل يزيل حتى الجلد الصدفي الخارجي. ويقطع رأس السمكة، ولا يبقي إلا لحم السمكة خالصا من الشوك والجلد الخارجي. والمدهش أنَّ سمك السردين لا يتجاوز طوله سوى سنتيمترات، وهو يحتاج إلى دربة، لعملية تنظيفه المعقدة دون أن يتلف، وليس للبري باري من الأدوات غير السكين والمقص. يقول الأمراني عن الأجور التي يتقاضاها عن عمله، “الكيلوغرم من السمك الذي أقوم بتنقيته أحصل مقابله على درهم واحد (0.1 دولار)، وبعض الزبائن يدفعون لي أكثر من ذلك كإكرامية منهم لي. السمك لاختبار زوجة المستقبل والحقيقة أنا أجد متعة حقيقية في عملي، لأني أسعد ربّات البيوت بمساعدتهن في جزء من عبء المطبخ. وهي بالنسبة إليّ مهنة مؤقتة أحصل من خلالها على 50 إلى 80 درهما يوميا. في بعض الأحيان، وحين يزداد عبء العمل يساعدني بري باري آخر، ويحصل على قسم من الأجور ومكافآت الزبائن. والحمد لله الأمور جيدة، وهذا العمل أفضل من تمضية الوقت في المقاهي، والتسكع في الأزقة الذي ربما يخلف لي ولعائلتي مشاكل لا طائل منها”. السمك اختبار الزواج تقول هدى لمنور ضاحكة (25 سنة) ربة بيت، بعد أن اشترت من بائع السمك كيلوغراما من السردين وكيلوغراما من سمك الشرن، ووضعت ما اشترته من أسماك قرب البري باري لتنقيته، “كانت أمهاتنا وجداتنا يؤدين عمل تقشير الحوت من الجلد، والشوك، والأحشاء، ويعتبرن ذلك جزءا مهما من واجبات ربة البيت. والأم المغربية، التي تخطب لأبنها كانت تختبر زوجة المستقبل بكيلوغرام من سمك السردين. تضعه أمامها، وتطلب منها تنقيته. أمي قصَّت علينا حكايتها مع اختبار خطبتها مع سمك السردين ضاحكة، وكيف أنَّها أتلفته، لأنَّها كانت تشعر بالخجل، ولا تعرف كيف تنقي السمك جيداً. تضحك من قلبها، وتكمل حكاية أمها مع السردين “ولكن مع هذا تزوجها أبي. وحين سألناه، لماذا تزوجت ميمتنا (أمنا) ما دامت لا تعرف تنقية السمك، فأجابنا، أنَّه كان عاشقاً لحسنها، وسألنا، ماذا يفعل الرجل بأمرأة تحسن تنظيف السمك وطبخه، لكنها ليست حسناء؟”. وتضيف لمنور بنبرة جادة، “البري باري يقدّم لربات البيوت خدمة كبيرة، فتنظيف الأسماك يتطلب وقتا وجهدا من ربة البيت، كما انَّه يعرف طرقا لتنقية السمك لا تعرفها جميع ربات البيوت. المطلوب من السيدة أن تخبره، ماذا تريد أن تفعل بالسمك، حتى يقوم بالواجب، ويقطعه وفق نوع الأكلة، التي تريد تقديمها للأسرة. وهو يقدّم هذه الخدمة لربات البيوت بمبلغ زهيد لا يتعدى الدرهم الواحد عن كل كيلوغرام، ولا تنسى، فإنَّه يخلصنا من نفايات الأسماك كالأحشاء، والحراشف والجلد والرأس والأشواك، والزفر، ويترك ما تبقى لحما صافيا يسهل طبخه وتقديمه للأسرة”. وتؤكد ليلى حرضان (45 سنة) موظفة، أهمية بائع الحوت في الأسواق الشعبية وأهمية عمل البري باري للموظفات، “الحقيقة أنَّ وجود السوق الشعبي القريب من حيّنا يجعل البيع بأسعار أقل بكثير من أسعار الأسواق النموذجية، ويوفر لي الكثير من الوقت والجهد والمال. فبائع السمك في بسطته يبيع بسعر أقل بمرة ونصف عن أسعار السوق الاستهلاكي، ولا يكلفني قيادة سيارتي لأشتري ما أحتاجه من الأسواق البعيدة”. وتضيف ليلى، “أنا عادة أشتري عدة كيلوغرامات من الأسماك تكفي عائلتي لأسبوع أو أكثر. وأدفعها للبري باري لتنظيفها، وبذلك أشتري الوقت وراحتي بمبلغ زهيد، ففي العادة يستغرق مني في الدار تنظيف الأسماك وقتا طويلاً، وجهدا كبيرا أحتاجهما للاهتمام بأطفالي وزوجي. وحالما يتم البري باري تنظيف الأسماك أحملها إلى الدار، وأغسلها مجددا في البيت وأملحها، وأتبلها وأوزعها على عدد المرات التي سنتناول فيها السمك، وبعد ذلك أحفظها في علب خاصة في فريزر الثلاجة”. وتختتم حرضان حكايتها مع السمك وبائعه ومنظفه قائلة، “أنا أشتري السمك والوقت والجهد من الحوّات والبري باري بأسعار معقولة”. يبقى الشاب المغربي الذي حصل على تعليم في الثانوية والجامعة مقتنعا أن العمل لا يتوقف عند الشهادة التي حصل عليها فالرزق يأتي من التجارة والخدمات، دون أن يترك حياته رهينة انتظار وظيفة قد لا تأتي، وإن أتت فهي لا تغطي مصاريف الحياة.

مشاركة :