الثياب مهما قصرت أو طالت ليست بالضرورة ما يعكس أفكارنا أو توجهاتنا في الحياة أو مدى تديننا وتقيدنا بالتعاليم الدينية، إنما هي فقط حرية شخصية تعكس علاقة خاصة بين الأفراد وأجسادهم.العرب شيماء رحومة [نُشر في 2017/08/01، العدد: 10709، ص(21)] "لا تعبثوا بملابسي"، مسيرة نظمتها مئات التركيات احتجاجا على ما وصفنه بالعنف المسلط عليهن من الرجال الذين يطلبون منهنّ ارتداء ملابس أكثر حشمة. وحملت النسوة ملابس قصيرة مثل الشورت أو السروال القصير، في أعقاب تعرض شابة تركية للاعتداء من قبل رجل في حافلة بمدينة إسطنبول، لارتدائها سروالا قصيرا. هذه الحادثة ذكرتني بـ”شلاط النساء”، وهي قصة واقعية لمجهول كان يضرب أرداف النساء بآلة حادة يرجح أن تكون شفرة حلاقة أو سكين عقابا لهن على لباسهن المغري وهو يجول شوارع تونس على متن دراجة، وهو ما استلهمت منه المخرجة التونسية كوثر بن هنية فيلما، حاولت من خلاله إعادة تمثيل جرائم هذا السفاح في حق الأرداف. كما أنني شاهدت الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ونقل ما حصل للفتاة التركية داخل الحافلة، ولا أراه يخرج عن كونه اعتداء على حق المرأة في الاستمتاع بحريتها الشخصية، ولا أظن المعتدي يعي معاني مقولة “تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين”، وحريتها في اختيار ما يناسبها من لباس لا يتجاوز حريته أو حرية غيره ممن يصادفونها حيثما ذهبت، في النظر إليها. وهنا قضية أخرى يحاول بعض الرجال تنصيب أنفسهم قضاة يحكمون وينفذون الحكم ويجيزون لأنفسهم تسليط العقاب بحجج واهية تقوم على مبدأ غض البصر، دون أن يفهموا جيدا أن الله أمر الرجال والنساء بغض الأبصار عمّا حرّم الله تعالى عليهم، والمراد غض البصر عن العورة وعن محل الشهوة، لا التدخل في اختيارات الآخر لملابسه بدعوى أنه حرك غرائزه الشهوانية، وبالتالي يبدو لي أن معاقبة المرأة هي معاقبة ضمنية للرجل لنفسه الأمارة بالسوء. ولا يعني هذا أن تتجرد المرأة من كل قواعد الحشمة والاحترام وأن تحول جسدها إلى لوحة إعلانية يلصق عليها رهط من المارة نظرات حادة تخترق حرارتها نعومة لا عهد لها منذ السلف بالظهور للعلن. ومع ذلك لا بد من التنبيه إلى مسألة هامة وهي قضية الجسد والهوية داخل المجتمعات العربية المحافظة، والتي تختلف كل الاختلاف عن الغرب الذي أعطى الحرية للمرأة لتتجرد حتى من جسدها، دون أن تعرقل النظرات الذكورية مسارها، لا أحد يحشر أنفه الفضولي داخل حقائب الآخرين الفكرية وينبش في عوراتهم بعيون ثاقبة وآذان متحفزة. شعوب غير مسلمة لكنها تطبّق تعاليم الإسلام دون إدراك لنصوصه، نجحت في خلق فضاء مناسب للتعايش بين الجنسين لأنها فقط تحترم حرية الآخرين، أما المجتمعات العربية فإنها تقيد الحريات لتنفيذ نواميس دينية تعكس رؤية ضبابية مبرمجة وفق طريق محفوفة بالانزلاقات نحو هاوية لا قرار لها من القراءات والتصورات التي حادت عن مسارها الحقيقي ومع ذلك تصر على البقاء. المجتمع الرجالي الذي عاقب المرأة وفق أهوائه لا لذنب فقط لأنها تلحفت بقطع قماش تناسب جسدها أو إحساسها بالتفرد والثقة والقوة، هو نفسه من فرض عليها دون وعي هذا لأنه بصري بامتياز يخير أن تكون أنثاه جسدا طريا نابضا بالحياة متناسقا يقع في هواه مفتونا مغرما، وهو نفسه من يترك للمرأة حرية اختيار ملابسه ليلتقي أصدقاءه مزهوا فرحا بوجود امرأة في حياته تنتقي له بعناية فائقة ملابسه وتحرص على نظافته. ثم إن الثياب مهما قصرت أو طالت ليست بالضرورة ما يعكس أفكارنا أو توجهاتنا في الحياة أو مدى تديننا وتقيدنا بالتعاليم الدينية، إنما هي فقط حرية شخصية تعكس علاقة خاصة بين الأفراد وأجسادهم، فالمرأة ليست وحدها المعنية بالقضية، فحتى الرجل في صميم المعمعة، لأن البعض من القوانين تنصّ مثلا على عدم تواجده ببعض المؤسسات العمومية بملابس غير لائقة في حين لا تمنع دخول المرأة إلى نفس الفضاء بثياب مثيرة لجدل لا ينتهي. كاتبة من تونسشيماء رحومة
مشاركة :