الفضول قتل القط، مثل إنجليزي، ربما لا يشير دائمًا إلى الحقيقة، فالفضول ربما كان الأب الشرعي للعلوم والفنون والمعارف، وحتى الحضارات، فضولي الشخصي جعلني أغبط الأجداد والآباء، فقط لأنهم عاشوا لحظات أراها فارقة في التاريخ الإنساني، عاش جيل جدي لحظة الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، وعاش حربين عالميتين، رأى إمبراطوريات تتهاوى، وأخرى تصعد، شهد لحظة سقوط دولة الخلافة العثمانية، لكنه حين اعتلى مصطفى كمال أتاتورك الحكم في تركيا، احتفى به مع ملايين المصريين، ومنح أبي اسمه «مصطفى كمال»، وعلق صورته على جدار بيته. شهد جيل أبي لحظات سقوط الإمبراطورية البريطانية في حرب السويس، ولحقت معه طرفًا من ذلك، لكنني وجيلي اكتشفنا مع الوقت، أننا صرنا شهودًا على أكثر لحظات الدراما في التاريخ الإنساني، فقد شهدنا في حرب أكتوبر عام 1973 الانتصار العسكري العربي اليتيم في التاريخ الحديث، وشهدنا قبله هبوط أول إنسان على سطح القمر، ثم توالت انفجارات ثورة التقنية ونحن شهودها، لتلغي حاجز الزمن وحاجز المسافات، حتى يستطيع جيلي والأجيال الشابة مشاهدة لحظة انهيار الإمبراطورية السوفيتية، ومعايشة لحظة سقوط جدار برلين، ومتابعة وقائع حرب تحرير الكويت مطلع تسعينيات القرن الماضي، لحظة بلحظة في بث حي ومباشر، لم يتح مثله لكل من سبقونا، ثم معايشة وقائع سقوط بغداد في قبضة الاحتلال الأمريكي، وما أعقبها من أحداث ما يسمّى بثورات الربيع العربي.. والآن يعايش جيلي ومعه أجيال من الشباب وقائع إعلان «دولة الخلافة» المزعومة، وتنصيب الخليفة أبوبكر البغدادي خليفة للمسلمين، فيما يبدو الخليفة المزعوم ممتطيًا ساعته السويسرية، تزيّنها مواقيت وخرائط 250 مدينة إسلامية، بينها بالطبع مدينة بغداد التي تطرق قوات الخليفة المزعوم أبوابها. لا يبدو حتى الآن أن الخليفة المزعوم أبوبكر البغدادي وجيوشه الجرارة -ما يزيد قليلاً على سبعة آلاف مقاتل- يثير أدنى قلق لدى الولايات المتحدة، التي حرثت جيوشها الأرض لجيوش الخليفة القادم، فوزير الخارجية الأمريكي جون كيري، لا يرى دولة «داعش» تهديدًا حقيقيًّا وملحًّا، والبنتاجون لا يرى موجبًا لتدخل عسكري أمريكي على الأرض، لوقف تقدم قوات «الخليفة» باتجاه بغداد العاصمة المرتقبة لدولة الخلافة، والرئيس الأمريكي أوباما يعتبر أن الصراع سيطول أمده، ويحدد هدف قواته بأنه وقف تقدم قوات «الخليفة البغدادي» باتجاه بغداد، أي أنه لا يمانع، ولن يستخدم القوة لطرد قوات داعش من الموصل، أو لإنهاء سيطرتها على حقول ومصافٍ نفطية هامة. هل ثمة «مؤامرة» أمريكية، لإعادة هيكلة الإقليم برمته، يمكن أن تقدم تفسيرًا مقبولاً لموقف واشنطن ممّا يحدث في العراق وسوريا واليمن، على التخوم الشمالية والجنوبية للسعودية وشبه الجزيرة العربية؟! هذا ما يرجحه منطق زبيجنيو بريجنسكي مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، إبان الغزو السوفييتي لأفغانستان أواخر سبعينيات القرن الماضي، فالرجل قد اعترف بأن واشنطن خططت لاستدراج السوفييت إلى التدخل عسكريًّا في أفغانستان، بهدف إنهاكهم، وأقر بمسؤولية بلاده عن دعم جماعات جهادية -بما فيها القاعدة- لتحقيق هذا الهدف، وقد رأيت بنفسي صورة بريجنسكي في بيشاور يرفع بندقية أمريكية الصنع ملوِّحًا بها لجماعات من المجاهدين في أحد معسكرات التدريب الحدودية في باكستان، لكن بريجنسكي قال ردًّا على سؤال عمّا إذا كانت واشنطن قد أخطأت بدعم تنظيمات متشددة قامت لاحقًا بضرب المصالح الأمريكية وتباهت بهجمات سبتمبر: «إن ما حققناه بإسقاط الإمبراطورية السوفيتية أكبر وأهم بكثير من تهديدات القاعدة ومنظمات جهادية أخرى»!! هذا هو منطق بريجنسكي، وهو ذاته منطق واشنطن في اللحظة الراهنة، حيث يظل تحقيق هدف إعادة هيكلة خارطة إقليم الشرق الأوسط، أهم بكثير من وجهة نظر واشنطن، من مخاطر ظهور جماعات «جهادية» جرى استنباط أهمها في المختبرات الأمريكية، ويعرف من استنبطوا سلالتها، كيف يمكنهم إبطال مفعولها إن تجاوزت الهدف منها. لا أجد تفسيرًا آخرَ، لحالة الصمت القنوع في واشنطن، تجاه ممارسات «الخليفة» البغدادي في شمال وغرب العراق، سوى رضا واشنطن عن نتائج حرب «داعش» في العراق، حيث توقفت قوات الخليفة عند حدود ما يمكن أن يصبح دولة سنية، فيما انتشرت قوات البشمرجة الكردية داخل مناطق يعتبرها الأكراد جزءًا من دولتهم، ويتعهد مسعود البرزاني بالقتال دفاعًا عن السيادة عليها، بينما تكتفي قوات المالكي المدعومة أمريكيًّا وإيرانيًّا بالدفاع عن ما تعتبره مناطق الدولة الشيعية في العراق، فيما تكرر تقارير عسكرية أمريكية الإشارة إلى أن بوسع قوات المالكي الدفاع عن مناطق ما زالت تحت سيطرتها، لكنها لا تملك إمكانيات حقيقية لاستعادة السيطرة على مناطق احتلتها قوات «الخليفة»، وتضيف التقارير الأمريكية الراضية عن الخارطة العراقية الجديدة أن الصراع من أجل إعادة بسط سلطة الحكومة في بغداد على سائر أراضيها سوف يستغرق وقتًا طويلاً..! بالوقائع التي عاشها جيلي، فقد تفوقنا كثيرًا على جيل الأجداد، شهدوا تحوّل المئوية بين القرن التاسع عشر والعشرين، وشهدنا تحول الألفية، شهدوا سقوط الإمبراطورية البريطانية، وشهدنا سقوط الإمبراطورية السوفيتية، شهدوا صعود القوة الأمريكية، ونحن نشهد صعود الصين وتراجع أمريكا، شهدوا مؤامرة سايكس - بيكو الأولى، ونشهد إعادة رسم خارطة سايكس - بيكو الثانية، شهدوا سقوط الخلافة العثمانية، ونشهد صعود الخلافة «الداعشية»، شهدوا سقوط الخليفة سلطان محمد وحيد الدين آخر خلفاء الدولة العثمانية، ونشهد صعود أبوبكر البغدادي أول خليفة «داعشي» مزعوم ممتطيًا صهوة ساعته السويسرية!! كنت ألوم جيل الأجداد.. لماذا لم يتحركوا لحماية أوطانهم، واليوم لا أملك حتى أن ألوم نفسي، وقد اعتراني عجز مذل، وساهمت تقنيات الاتصال في إذلالي، حيث أرى ما يجري طول الوقت ولا أملك حراكًا لمنعه أو لتغييره معظم الوقت.. ما زلت أحسد الأجداد تحت الثرى، فقد غادروا عالمنا قبل أن يروا من المخاطر ما نرى. moneammostafa@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :