كنت في جلسة حوار مع وزير الخارجية المصري الأسبق أحمد أبوالغيط بمكتبه المطل على نيل القاهرة، حين دعاني لمشاهدة غرفة نومه الملحقة بالمكتب، وكذلك صالة ألعاب صغيرة «جيمنزيوم» ملحقة بغرفة النوم، أراد الوزير أبوالغيط الإشارة إلى حجم مشاغل العمل التي لا تدع له فرصة للراحة بمنزله ووسط أسرته، ما اقتضى تخصيص غرفة للقيلولة أو الاستراحة بمكتبه بالوزارة. كان الرئيس الأسبق مبارك مازال في سدة الحكم، وكانت حصة وزير الخارجية آنذاك، في إدارة السياسة الخارجية للدولة، عند أدنى مستوياتها، فيما كان مبارك يعهد بأهم الملفات الخارجية إلى اللواء الراحل عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات المصرية العتيد، بينما دافع أبوالغيط عن دوره حين سألته: ماذا تبقى لك من ملفات؟ قائلاً: هذا يحدث في كل مكان، وبصفة خاصة في الملفات ذات الطابع الأمني.. انظر إلى دور مدير المخابرات الأمريكية، لقد كان هنا -بالقاهرة- قبل أيام لبحث الملف الفلسطيني؟! وعندما سألته عن «حدود الأمن القومي المصري» أمسك بقلم أحمر وراح يمرره فوق خط الحدود المصرية في الاتجاهات الأربع قائلاً: «هذه هي حدود أمننا القومي».. كانت إجابته صادمة، فما حاجته إلى غرفة نوم وأجهزة رياضية بمكتبه إن كانت تلك هي حدود أمنه القومي -كما يراها هو- والتي يستطيع أي وزير «داخلية» شاطر حمايتها؟! لكنني حاولت التماس العذر له، فهو مجرد موظف كبير، في دولة يضع دستورها بيد رئيس الجمهورية إدارة السياسة الخارجية والأمن القومي فيها. على أية حال، فإن ما استدعى تلك القصة هو ما يبدو أنه مراجعة في العمق للسياسة الخارجية المصرية، ولمفهوم الأمن القومي المصري، في عهد الرئيس الجديد عبدالفتاح السيسي الذي لخص تصوره للأمن القومي المصري في جملة من كلمتين كانتا عنوانًا لمقال سابق في هذا المكان ذاته قبل ثلاثة أسابيع، عنوان نظرية السيسي للأمن القومي هو «مسافة السكة»، فهو يرى أن حدود الأمن القومي المصري هي ذاتها حدود الوطن العربي الكبير، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ويرى مسؤوليات مصر عن أمن شقيقاتها العربيات في هذا السياق ذاته، ولا يرى أن التزامه موضع تأويل أو تفسير إلاّ بمقدار الزمن الذي يستغرقه وصول قدرات مصرية إلى الموقع العربي المهدد بالأخطار. التزام السيسي بنظرية «مسافة السكة» هو التزام مصري قديم وثابت، لم تتمكن من تجاهله حتى الحكومات التي رفعت شعار «مصر أولاً»، فساهم السادات في تسليح جيش صدام حسين إبان حربه ضد إيران، رغم أن صدام هو من قاد حملة فرض القطيعة على مصر بعد كامب ديفيد، وسارع مبارك إلى إرسال ثاني أضخم قوة عسكرية أجنبية على الإطلاق بعد الولايات المتحدة، في عملية عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، لكن هذا الالتزام يتعرض في اللحظة الراهنة لاختبار بالغ الصعوبة، بعد أيام فقط من تولي السيسي الرئاسة المصرية، وذلك جراء اجتياح قوات ما يُسمّى بالدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» لشمال وغرب العراق، وسيطرتها التامة على محافظات عراقية رئيسة، وما قد يمثله ذلك من تهديد لاحق للجزيرة العربية ودول المشرق العربي، تتعرض معه مصر لخطر داهم. الوضع في العراق وسوريا بالغ التعقيد، واستمرار التهديد الذي تجسده قوى وجماعات إسلاموية متطرفة في البلدين، يهدد الإقليم برمته، وتزامن تهديد هذه الجماعات في المشرق العربي، مع تهديدات أخرى في ليبيا غرب مصر تجسدها جماعة أنصار الشريعة، التي تضطلع قوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر بمواجهتها، كل ذلك يضع ضغوطًا غير مسبوقة على مصر ويضع التزاماتها الأمنية تجاه أشقائها في منطقة الخليج بصفة خاصة على المحك. تحريك القوات، أو التلويح باستخدام القوة، أو استخدامها بالفعل، هو آخر ما ينبغي عمله، في مواجهة تلك التهديدات التي تحمل صبغة «وجودية» في بعض الأحيان، وكما قلت في مقال سابق فإن «مفتاح الفرص تحت دواسة باب الأزمات».. فقط علينا استكشاف الفرص السانحة والتي تنتج عن أزمة حادة، وتحديد السبل المناسبة لاقتناصها، فالوصول إلى المعلومات، وامتلاك الرؤية، والقدرة على طرح خيارات بديلة، ووجود قنوات اتصال مفتوحة مع الأطراف الرئيسية المؤثرة، كلها عوامل ينبغي التفاعل معها للخروج من الأزمة الراهنة في أقل وقت وبأقل كلفة ممكنة. طبقًا لتصوّر أمريكي -أتفق معه كثيرًا هذه المرة- فإن الأزمة التي تجسدها سيطرة قوات داعش على مناطق كبيرة من العراق وخططها لاجتياح بغداد، تمنح العراق فرصة معالجة علل ما بعد الانسحاب الأمريكي، فالقوات العراقية التي تخلّت عن سلاحها، وقامت بخلع زيها العسكري، وتركت الموصل وكركوك وتكريت نهبًا لعناصر داعش المسلحة، فعلت ذلك بتأثير عوامل طائفية حان وقت علاجها في العمق، قبل أن يفقد العراق صميم وجوده. وبحسب مصادر أمريكية مطلعة فقد رفضت واشنطن طلبًا مكتوبًا من المالكي بقصف قوات داعش جوًّا باستخدام طائرات أمريكية بدون طيار، كما تفعل في باكستان واليمن، مشترطة أن ينجز المالكي أولاً، توافقًا سياسيًّا -لا طائفيًّا- بالعراق. إذ ترى واشنطن أن الأزمة الراهنة يمكن أن تسهم في توحيد كافة القوى السياسية العراقية ضد داعش تحت وطأة الخوف من اختفاء العراق. وتعتقد واشنطن كذلك أن نوري المالكي بات بإزاء خيارين لا ثالث لهما، فإمّا أن يلين أمام منافسيه السياسيين من السنّة بصفة خاصة، ويعمل لأجل عراق واحد لا تحكمه الطائفية ولا العنصرية، وإمّا أن ينكسر مرة واحدة وإلى الأبد. مطلوب جهد عربي متناسق تقوده مصر والسعودية، لبناء موقف يستثمر حقائق الأزمة العراقية، ويعمل مع قوى الفعل في العالم، من أجل تعزيز وحدة العراق ولجم السعار الطائفي، وحمل نوري المالكي على القبول بصيغة توافقية تصون وحدة العراق، وتتيح التصدّي لجنون التطرف الذي تجسده داعش، لكن على الأطراف كلها أن تبدي قدرًا من المرونة يستوعب حقيقة أن السياسة هي منطقة الحلول الوسط، حيث لا مكسب مطلق، ولا خسارة مطلقة. moneammostafa@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :