صور الفقد والحنين في رواية «الجسد الراحل» للإماراتية أسماء الزرعوني (1) - ثقافة

  • 8/2/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

رواية «الجسد الراحل» للأديبة الإماراتية أسماء الزرعوني من أهم الأعمال التي عالجت قضايا عدة مهمة تخص المجتمع الإماراتي قبل التحول النفطي الهائل في مرحلة ما بعد الاستقلال. تطرح الرواية موضوعات عدة مثل الحب والفراق والفقد والاغتراب النفسي والجسدي عن الوطن والهجرة إلى مدن أخرى بسبب الظروف الاجتماعية. تعالج الرواية أفكارا ثقافية ونفسية عدة، وتقدم العالم النفسي الخاص بشخصية البطل عيسى من خلال مفاهيم العقدة الأوديبية والصراع المحتدم بين الوعي واللاوعي عند فرويد، ومفاهيم الرغبة والفقد المتعلقين بالأم والمرأة المحبوبة عند المحلل النفسي جاك لاكان. تهتم هذه القراءة بتحليل الرواية في ضوء مفاهيم نظرية التحليل النفسي الفرويدي واللاكاني، وإضاءة بعض الأفكار العامة في الرواية. الفقد الأول: الحضن الأمومي تدور أحداث الرواية المسرودة بسارد خارجي وبدائرة السرد التقليدي التي تبدأ بتقنية الفلاش باك من ثم يبدأ السرد بالتتابع الزمني للحكاية، حول هروب البطل عيسى في سن مبكرة من عمره من قريته في الإمارات إلى البحرين من ثم إلى لندن بسبب وفاة أمه وزواج أبيه من امرأة أخرى مما كان له الوقع الكبير على شخصية عيسى. يشرح السارد العليم هذه التفاصيل: «دارت الدنيا في وجهه وتحول والده إلى ذئب شرس، لم يفكر لحظتها سوى بالهرب من وجه أبيه، هرب إلى غرفته، حبس دموعه وألقى بنفسه على سريره الخشبي المتواضع، أخرج ملاءة أمه يشم رائحتها، يكفكف دموعه، أحس بأن الدنيا أمام عينيه، وأيقن أن والده قد تغير». (12) عيسى الواقع تحت تأثير صدمة الانفصال عن أمه وفقدها لم يستطع العيش بعدها في نفس المكان، فلا زال يحلم بها ويتمنى رؤيتها، ولكنه يصبر ويحتمل الفراق ما دامت تفاصيلها لا تزال موجودة في المنزل، ولكن ما إن يتزوج الأب من امرأة أخرى حتى يقرر الهروب والفرار بعد أن رأى زوجة أبيه تفتح صندوقا كان لأمه، وهو الأمر الذي هدد فكرة بقاء ذكريات أمه وتفاصيل حياتها لذلك يقرر الرحيل، تاركا خلفه محبوبته بدرية. هنا، نجد عيسى يعاني عقدة أوديبية بحيث أنه لا يرغب بالانفصال عن الأم سواء كان الانفصال جسديا، أم معنويا يريد الحفاظ على كل ما يبقيها على قيد الحياة. وبالمقابل يوجه مشاعرا عدائية تجاه أبيه لأنه لم يحافظ على ذكراها في المنزل، فيعاقبه بترك الوطن، لأن الأم هنا هي الوطن الأول الذي فقده، فلم يعد لوجوده فيه أي جدوى. يرحل عيسى لأنه أضعف من فكرة أن تحل امرأة أخرى محل أمه، ومن دون أدنى تعاطف مع موقف أبيه لأنه لا يزال في المرحلة الأوديبية الفرويدية الأولى من تماهٍ تام مع الأم ورفض كل ما ينتج عن العقل، يقرر عيسى بأن يهاجر و يفجع والده بفكرة رحيله لمعاقبته (ولنلاحظ هنا فكرة الانتقام من الأب). وحتى في منفاه الاختياري لندن، لا يفكر في أن يرسل رسالة لأهله كي يطمئنهم عليه، وكأنه أراد الانتقام من أسرته التي يراها همشت مشاعره تجاه فقده لأمه. كما يقول السارد: «أخذ القرار بالهجرة وترك الديار حتى تهدأ نفسه ويجد ذاته ويرتاح نفسيا فتعلقه بأمه وتبدل والده تجاهه ووجود من تحتل مكانة أمه، كل ذلك جعله قلقا منشغل البال.. حائرا.. وفقده للحنان كان صدمة جعلته يؤكد قراره بالفرار بحثا عن دنيا أخرى يتصور أن يجد فيها من الدعة والهدوء وراحة النفس الكثير». (13) الاقتباس السابق يبين لنا مشاعر الفقد والرغبة بالعودة إلى فردوسه المفقود، ولكنه يقرر الرحيل عله يبني عالما رمزيا أكثر سعادة في مملكة أخرى. هنا، تذكرنا حالة هروب عيسى بموقف الشاعر الإنكليزي جون كيتس في قصيدته «أغنية إلى العندليب»: ارهف سمعي في الظلام، ولمرات عدة صبوت الى موت هادئ اناديه بأحلى الاسماء وبقواف موزيَة ليحمل انفاسي الوادعة في الهواء الطلق والآن أكثر من أي وقت مضى يبدو الموت أكثر ثراء فالموت منتصف الليل لا يخلف ألما. يعيش كيتس تجربة فقد الأم ويبقى يعبر عن ألم الفقد في قصائده، محاولا التحليق من خلال الخيال الشعري في قصائده واشتهاء الموت للخلاص من ألم فقد أمه وعالمها الرمزي المليء بالسعادة والرعاية الأمومية التامة قبل أن يتعرف على رهانات الحياة الواقعية وإملاءاتها على الإنسان. لأن الواقع، بالنسبة لكيتس يذكره بتجربة فقد أمه، فيقرر العودة إليها عبر الخيال الشعري، بينما الرحيل بالنسبة لعيسى هو الحل، لأنه فقد فردوسه، فرحل كطائر كيتس، العندليب، يبحث في المنفى عن راحة واستقرار من دون جدوى، كما سيتضح في نهاية القراءة. هذا الموت الرومانسي المشتهى عند كيتس الذي يمثل ذروة ما يتمناه الشاعر الرومانسي كحل للخلاص من العذاب الدنيوي والالتحام مجددا مع الأم، تحول عند عيسى إلى ذاكرة حبيسة أوراق الماضي، فعيسى جسديا يحافظ على تماسكه وتعايشه في المكان الجديد، وتكوين حياة جديدة، ولكن عالمه الروحي بقي متعلقا بالماضي بشكل كامل، ما يعني عدم تطور التجربة الشعورية عنده بل توقفت عند تفاصيل حياة الطفولة، أن يكون الجسد في مكان، والروح في مكان آخر مما يوضح لنا هنا دلالة العنوان «الجسد الراحل»؛ إن عيسى رحل بجسده فقط عن المكان، بينما مخيلته وذاكرته ما زالت ترتبط بالماضي بالحضن الأمومي والمرأة المحبوبة بدرية، اللتين فقدهما إلى الأبد. * ناقدة وأكاديمية كويتية • أسماء الزرعوني، «الجسد الراحل»، رواية، الطبعة الثانية، الغد برس، 2015م. • معلوف، أمين (1999)، «الهويات القاتلة»، ترجمة: د. نبيل بهجت، دمشق: دار ورد.

مشاركة :