نجيب محفوظ.. مسلسل اغتيالات لا ينتهيلم تكن الطعنة الغادرة التي تلقاها أديب العربية الأبرز نجيب محفوظ في رقبته بسكين شاب متطرف اعترف بأنه لم يقرأه، هي آخر حلقات الاعتداءات المتكررة عليه بهدف اغتياله، فلا يزال محفوظ (11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006) حتى يومنا هذا مرمى للإساءات والممارسات العنيفة، التي لا تقل ضراوة عن طعنة منتصف تسعينات القرن الماضي التي أدمت جسده، ولم تزهق روحه.العرب شريف الشافعي [نُشر في 2017/08/02، العدد: 10710، ص(15)]مازال الأكثر جدلا مسلسل اغتيالات نجيب محفوظ يعكس أزمة الثقافة المصرية على وجه العموم، بما فيها من تكلس وجمود وفقدان للبوصلة وتكريس للانتفاع وإزاحة للرموز والوجوه الناصعة وصراعات على الزائل والبائد. إن كاتبًا بهذا الوزن، اعترف العالم بأنه أحد أفضل حائزي جائزة نوبل على مر تاريخها، يستحق أن يظل منبرًا للتدارس المتخصص ومركزًا للاحتفاء الدوري الموسع على مدار العام، وأن تكون ذكرى ميلاده وذكرى رحيله مناسبتين متجددتين لتقديره، وتكثيف الضوء على عطائه، بمهنية وتعمق. تعرض محفوظ في حياته لمحن كثيرة، أبرزها الصدام مع سيل الفتاوى والمؤسسات والجماعات الدينية على خلفية روايته “أولاد حارتنا”، وتعرضه للتكفير، ومنع نشر الرواية في مصر لسنوات طويلة. وفاة نجيب محفوظ، منذ قرابة 11 عامًا، لم تعصمه من الضربات المتتالية، التي لم يعد الرجل يملك دفعًا لها بيده، ولا بقلمه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مأساة إقامة متحفه في “تكية أبوالدهب” بالقاهرة الفاطمية، واتهامه بخدش الحياء داخل أروقة البرلمان والمطالبة بمحاكمته في حالة كونه حيًّا. مؤلفاته الصادرة بعد وفاته تعرضت كذلك للتشكيك في نسبتها إليه، وألح المغرضون على توسعة الأسباب السياسية لمنحه جائزة نوبل وتضييق دائرة الاستحقاق الفني، كما لقيت ابنتاه الكثير من التجريح والانتقاد اللاذع أكثر من مرة. الحقيقة والسراب هل متحف نجيب محفوظ المزمع إنشاؤه في “تكية أبوالدهب” بالقاهرة الفاطمية حقيقة أم سراب؟ سؤال يطرح نفسه، بعد تأجيل موعد افتتاح المتحف أكثر من مرة، على مدار الأعوام الماضية، لخلافات بين وزارات الآثار والثقافة والأوقاف أحيانًا، ولأسباب إدارية وإجرائية في أحيان أخرى. منذ أيام قليلة، تردد أن المتحف في سبيله إلى الافتتاح هذا العام في ذكرى رحيل محفوظ (30 أغسطس)، لكن أحمد عواض رئيس صندوق التنمية الثقافية نفى في بيان رسمي إمكانية تحقيق ذلك، موضحًا أنه تسلم خطابًا من اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية يتعلق بضرورة استكمال بعض التجهيزات في المتحف وافقت عليها وزارة الآثار، منها مصعد وأجهزة تكييف وأعمال كهربائية أخرى بالمتحف، بما يؤجل افتتاحه إلى موعد غير معلوم. من جهته، قدّم حلمي النمنم وزير الثقافة يومين بديلين قبل نهاية العام الجاري لافتتاح المتحف، بدون أن يجزم: أيهما موعد تحويل السراب إلى حقيقة؟ الموعد الأول: ذكرى ميلاد محفوظ (11 ديسمبر)، والثاني: أكتوبر 2017، أي في ذكرى حصول محفوظ على جائزة نوبل. مثل هذا التخبط الإداري والتضارب في المواعيد يحيط بالمتحف منذ كان فكرة وليدة في عهد وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني في العام 2006، حتى يومنا هذا، وقد تحدد أكثر من موعد سابق للافتتاح بمعرفة وزارة الثقافة، ولم يسفر الأمر عن شيء.تأجيل افتتاح متحف "أديب نوبل" طعنة جديدة للتنوير في مصر النزاع بين الوزارات المختلفة بشأن موضع المتحف، يفترض أن يكون تم حسمه بموافقة اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية في يونيو الماضي على تحويل “تكية أبوالدهب” في القاهرة الفاطمية إلى متحف نجيب محفوظ، لكن العراقيل الإدارية والإجراءات لا تزال تحول دون افتتاح المتحف، الأمر الذي دفع ابنة نجيب محفوظ السيدة أم كلثوم إلى التصريح برغبتها في استعادة مقتنيات والدها من وزارة الثقافة المصرية، لفقدانها الأمل في إنجاز المتحف. فضيحة البرلمان ديسمبر 2016، الذي شهد إعلانًا وهميًّا كالمعتاد عن افتتاح متحف محفوظ في ذكرى ميلاده الـ105، شهد كذلك إساءة كبرى لأديب نوبل، إذ اتهمه أحد نواب البرلمان بخدش الحياء وإهدار الفضيلة في كتاباته، وأنه كان يجب تقديمه للمحاكمة لو كان حيًّا. الأمر بدا مثل مزحة باردة، لكن وقائع الجلسة البرلمانية الموثقة أثبتت بالفعل ما قاله أبوالمعاطي مصطفى، نائب دائرة كفر سعد في محافظة دمياط، بحق نجيب محفوظ في جلسة برلمانية خصصت لمناقشة قضايا النشر. هذه الواقعة، من الممكن تفسيرها في إطار الاعتداء على المجتمع الثقافي، إذ لا معنى للرغبة في محاكمة من لم يعد حيًّا، لكن هناك رغبة في فرض قوانين بعينها ترهب المبدعين وتحد حرية الكتابة. وقد جاءت ردود أفعال المثقفين قوية إزاء فضيحة البرلمان، وصدرت عشرات البيانات لإدانة ما حدث، والدفاع عن محفوظ وحرية التعبير. “خدش الحياء”، لم تكن التهمة الوحيدة التي لاحقت محفوظ في كتاباته، إذ تعرض في حياته لزلزال أكبر بشأن روايته “أولاد حارتنا”، التي ظلت ممنوعة من النشر بمصر لسنوات طويلة، بتوصية من الأزهر، وبسببها اتهم محفوظ بالتطاول على الذات الإلهية، ووصل الأمر إلى تكفيره ومحاولة اغتياله على يد شاب طعنه في رقبته، واعترف بأنه لم يقرأ له شيئًا. منع رواية “أولاد حارتنا” في الخمسينات من القرن الماضي، وطعن محفوظ بسببها في التسعينات، واتهام محفوظ بخدش الحياء وإهدار الفضيلة في نهاية العام الماضي، مؤشرات على أن المناخ العام السائد بمصر لم يتغير إزاء الثقافة والمثقفين، وأن نيل أديب مصري جائزة نوبل لم يعصمه من هجمات الظلاميين وإساءات المغرضين. منذ شهور قليلة أيضًا نالت الأقلام من عمل لنجيب محفوظ، صدر بعد رحيله، إذ رأى البعض أن “أحلام فترة النقاهة” (الجزء الثاني/ الأحلام الأخيرة)، عمل مدسوس على محفوظ، وربما يكون تم تلفيقه لأسباب تجارية.المناخ العام بمصر لم يتغير إزاء الثقافة والمثقفين رغم خفوت مثل هذا الطرح، وضعف حجته إلى حد السذاجة، فإنه أساء إلى أسرة محفوظ، وناشره (دار الشروق)، فضلًا عن أنه تضمن تلميحًا ضمنيًّا إلى أن “أحلام” محفوظ لا تحمل بصمة مميزة له، وبالإمكان تقليدها وخداع القارئ. اكتشفت أسرة محفوظ العشرات من قصصه المكثفة “أحلام فترة النقاهة”، ونشرتها “دار الشروق” في كتاب تضمن قرابة ثلاث مئة نص جديد، ووصفها الناشر إبراهيم المعلم في مقدمة الكتاب بأنها “كنز أدبي وثروة ثقافية ومفاجأة روائية من العيار الثقيل، فهي ابتكار لمحفوظ في فن السرد، وهي أعلى مراتب الإبداع والفلسفة والشفافية والحكمة”. محطة أخرى من محطات اغتيال محفوظ، بعد رحيله، تمثلت هذه المرة في ابنتيه، فاطمة وأم كلثوم. وقد توفيت الأولى في أواخر أبريل الماضي، في صمت تام، وسط غياب وتجاهل الجهات الرسمية والمثقفين، إلا أن ذلك قد يعود إلى رغبة الأسرة في النأي بما هو شخصي عن عدسات الإعلام، وقد حدث ذلك الأمر أيضًا عند وفاة زوجة محفوظ في وقت سابق. تعرضت ابنتا محفوظ هذا العام لانتقادات كثيرة وصلت إلى حد التجريح، ووصف البعض أسرة محفوظ بأنها “داعشية” استنادًا إلى ارتداء ابنتيه “الحجاب”، وما أشيع عن رفضهما نقل رفات محفوظ إلى متحفه المزمع إنشاؤه، وأنهما غير راضيتين عن بعض أعماله، وعلى رأسها “أولاد حارتنا”. وقد نفت أم كلثوم، ابنة محفوظ، كل ما نُسب إليها وإلى أختها، بشأن رأيهما السلبي في أعمال أبيهما، وتساءلت في تصريحات صحافية بشأن موقف الأسرة من نقل رفات محفوظ إلى متحفه: أين المتحف؟
مشاركة :