لوحات/صور يُمكن أن تكون لجميع البشر إن هم امتلكوا شيئا من البصيرة التي تمكنهم من أن يتلقفوا الالتباس ما بين الخارج والداخل، والآني والدائم، والمزيف والحقيقي، والمنشود والمفقود في غمرة واحدة دون أو يسبب ذلك لهم شيئا من الإعياء البيولوجي.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/08/04، العدد: 10712، ص(17)] عندما قدم الفنان التشكيلي الإيراني مهدي درويشي المولود في طهران سنة 1988، معرضه البيروتي الأخير تحت عنوان “بعيدا عن المتناول”، مستعرضا فيه مجموعة من اللوحات المُقلقة لم يقصد تصوير أنصاف وجوه أو نظرات بشرية من خلف عدسات الهواتف الذكية المستطيلة والضيقة، بل أراد الفنان جعل تلك العدسات أشبه بعيون خارقة شاخصة إلى الداخل والخارج، كما أراد إظهارها منقطعة عن الخارج والداخل في الآن ذاته في وحشة مريبة. لوحاته تتمحور بعيدا عن “همجية” وزيف صور “السيلفي” التي يلتقطها ويعرضها الكثير من الناس على صفحات التواصل الاجتماعي، والتي كُتبت عنها الآلاف من المقالات والدراسات حتى الآن. “عيون” مهدي درويشي المعروف عنه غوصه في عتمات الوجود الأكثر عتمة، تتمحور من ضمن تلاوين وأحجام واحدة حول معنى الهوية الإنسانية من خلال عيون شبكات التواصل الاجتماعي، لا سيما تلك التي تركز على الصور كإنستغرام وفيسبوك. أخرج الفنان “عين” تلك الشبكات التواصلية إلى العلن في التباس مفهومي بالرغم من أنه واقعي/فجّ، ومن هنا تماما عمّ جوّ القلق وانتشر في كل الأعمال المتشابهة ليسيطر على أي محاولة قراءة للعناصر القليلة في المشاهد المرسومة التي يقتصر حضورها على ثلاث طبقات. الطبقة الأولى، وهي أشبه بأبواب حديدية سوداء تخترق أعلاها مستطيلات صغيرة وضيقة وهي صلة الوصل والتواصل؛ فالانقطاع بين ما هو خلف الباب/هيكل الهاتف الذكي الخارجي، والطبقة المتوسطة حيث أنصاف الوجوه ذات العيون الشاخصة إلينا وإلى ذاتها في الوقت نفسه، وراء هذه العيون البشرية نعثر على ضيق مسطح مضيء وكأنه يشعّ من قمر قريب، قمر خصص له الفنان لوحة منفصلة يقف فيها هو الآخر خلف ستارة الجسد الخارجي للهاتف المحمول، ما بين الخارج والداخل لا يوجد فقط المستطيل الصغير فحسب، بل مُضافة إليه قضبان فولاذية تشبه تلك التي تصطف في نوافذ السجون. في أعمال الفنان أسامة بعلبكي التي قدم معظمها في معرض أطلق عليه عنوان “ظلال الوحشة” تأمل شعريّ للذات ودعوة للمُشاهد أن يشاركه في هذا التأمل، أما لوحات الفنان درويشي فتغلب عليها صفة القطع النهائي مع أي صيغة خارج رهاب النظرة المُتحجرة وإن بدت متوجهة إلى الآخر وإلى الذات. وعلى الرغم من الاختلاف بين أعمال الفنان الإيراني مهدي درويشي وأعمال الفنان اللبناني أسامة بعلبكي، التي تتمحور حول استكشاف الذات بتلويناتها التي هي أيضا تكاد تقتصر على الأسود والأبيض، ثمة تقارب عميق جدا؛ إذ تمثل أعمال الفنان بعلبكي كما تمثل أعمال الفنان درويشي نسخة معاصرة من معنى “الخدع البصرية”، فكلاهما يقدم للمُشاهد مشاهد رطّبها ضوء القمر العليل بصوره المُلتبسة التي ترينا العالم الخارجي والداخلي بشكل مختلف. ضوء القمر الرائي يعشق لوحات الفنان أسامة بعلبكي، إن كان متخفيا في لوحات الأوتوبورتريه الكثيرة التي رسمها بالأسود والأبيض أو في تلك الجديدة التي يتمظهر فيها شكليا في لوحاته الأخيرة متوسطا سماء بيروت الليلية، كذلك الأمر بالنسبة للوحات مهدي درويشي المعروضة تحت عنوان “بعيدا عن المتناول”. لوحاتهما من هذا المنطلق هي خدع بصرية تصور للناظر مرئيات هي غير حقيقتها (في لوحات درويشي هي منقوصة وفي لوحات بعلبكي تمتلك نبرة سريالية عالية)، لكنها صور بعد معالجتها بالدماغ، أو بالعين الثالثة، إن جاز التعبير، شديدة “الحقيقية”، إنها صور/لوحات ذات عمق مُقلق تفرض نظرة جديدة إلى الآخر وإلى الذات. لوحات/صور يُمكن أن تكون لجميع البشر إن هم امتلكوا شيئا من البصيرة التي تمكنهم من أن يتلقفوا الالتباس ما بين الخارج والداخل، والآني والدائم، والمزيف والحقيقي، والمنشود والمفقود في غمرة واحدة دون أو يسبب ذلك لهم شيئا من الإعياء البيولوجي المتمثل في عوارض عضوية ونفسية على حد السواء، عوارض لا يسهل التخلص منها. ناقدة لبنانيةميموزا العراوي
مشاركة :