السياسة الخارجية ومحدّدات الشخصية

  • 8/7/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

يدرس طالب السياسة في بداية حياته الجامعية مبادئ عامة قبل أن يتخصص في أحد فروعها. ومن بين المبادئ دراسة محددات السياسة الخارجية التي تتراوح هنا بين موضوعية تندرج تحتها ظروف داخلية وخارجية، وشخصية ترتبط بالفرد الذي يصنع هذه السياسة. وإذا كان الشكل الأول من المحددات يساهم أساساً في ظهور سياسة الدول الخارجية، تبقى للعوامل الشخصية أهمية كبيرة لكونها تؤثر عميقاً في توجه هذه السياسة. وفي هذا السياق تأتي أهمية القيادة السياسية ومدى قدرتها على قراءة المتغيرات الخارجية في حال التحرك خارجياً وكيفية تحقيق مكاسب وتجنب خسائر في العلاقات التي لا يمكن أن تكون مباراة صفرية بين الدول، فهي تعبر عن مصالح مشتركة وعن تبادل منافع. وقد تكون لديك مقومات داخلية وخارجية قوية لصنع سياسة خارجية مفيدة، في ظل قيادة تعجز عن القراءة الصائبة، فتحول هذه المحددات إلى كوارث. وتُتهم السياسة الخارجية في الكثير من الدول العربية بكونها لم توظف إمكاناتها وقدراتها في تحقيق مكاسب خارجية نتيجة المحددات الشخصية للقائد السياسي. وهنا يمكن القياس على أنماط عدة برزت على مدار السبعين سنة الماضية مع بدء ظهور الدولة الوطنية في شكل مستقل عقب إنهاء الاحتلال الخارجي. النمط الأول المؤدلج صاحب النظرية الحدية في التعامل مع الدول الخارجية وجسَّدته في شكل كبير فترة حكم جمال عبدالناصر في مصر، فما كان يؤمن به عبدالناصر من قيم تحرر وعدم الانصياع لمطالب للدول الكبرى لا غبار عليه، وإنما أن يدخل في تحدٍ معها كان هو المغامرة المحفوفة بالأخطار، فالسياسة الخارجية لا تحتاج مواجهة بقدر ما تحتاج مساومة ولا تحتاج خضوعاً بقدر ما تحتاج إظهار شخصية الدولة ونقاط قوتها وكيف يمكن أن تكون مفيدة للدول الأخرى في حالة الدخول معها في مفاوضات أو تحالفات. وهو أمر افتقدت إليه كاريزمية عبدالناصر بلعبه على وتر الغرب الاستعماري ليحقق شعبية فائقة وسط شعوب كانت خارجة من تحت نير الاحتلال الأجنبي. هذا النمط لم يختف بموت عبدالناصر، فسار عليه بعد ذلك كل من صدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سورية وبعض الفلسطينيين أو ما يعرف بحزب الممانعة، فركزوا على عدو ممثل في إسرائيل والغرب بهدف بناء شرعية لحكمهم والنتائج جاءت كارثية بعد ذلك سواء في جغرافية الأرض والبشر حيث يحكمون. النمط الثاني هو القيادات المنكفئة داخلياً لأسباب مرتبطة بطبيعة شخصيتها وعدم قدرتها على إدراك أهمية موقعها في السياسة الخارجية أو نتيجة لطبيعة ظروف الداخل وتفاعلاته، ومجمل هذه القيادات ارتضيت بتحقيق الاستقرار داخلياً وعملت على إطالة مدة الحكم وهي السمة الغالبة لمعظم القيادات السياسية العربية على مدار السبعين سنة الماضية. أما النمط الثالث من القيادة فهو المرتبط برؤية واسعة لمتغيرات التفاعلات الدولية والقدرة على التحرك على المستوى نفسه من التفاعل بين دول عظمى ودول جوار. وإذا خرجنا من الإطار العربي وأخذنا نموذج صنع السياسة الخارجية في كل من روسيا والولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، نجد في الأولى تظهر شخصية الرئيس فلاديمير بوتين بنمط من القيادة يتفوق فيه على الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فظهرت تهديدات الأخير لروسيا سواء في ما يتعلق بإقليم القرم أو الحرب في أوكرانيا وكأنها مراهقة سياسية منه على ضوء ثبات موسكو على سياساتها الخارجية. وبرزت ملامح التحول بأن حلَّت روسيا مكان الولايات المتحدة أو نافستها في قضايا الشرق الأوسط في شكل لم يحدث منذ ستينات القرن الماضي. وبالنسبة إلى أميركا الآن فإنه على رغم الانتقادات التي قد توجَّه إلى قرارات دونالد ترامب إلا أن نموذج شخصيته يساعد في تحليل توجهاته في صناعة السياسة الخارجية، فهو واضح في أهدافه وفي قراراته بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، والأمر الذي يعطي ثقة أكثر للذين يتعاملون معه إذا قرأوا شخصيته جيداً. يتصرف ترامب ليس بكونه حامي حمى الديموقراطية في العالم وإنما بنهج مختلف يهدف إلى الحفاظ على مصالح أميركا في الخارج. وإن كان تأثير المحددات الموضوعية قد يقيد من شخصيته خصوصاً من المؤسسات المسؤولة عن صنع السياسة الخارجية، إلا أن هذا النهج غير التدخلي قد يوفر جهوداً كبيرة بدلاً من ديبلوماسية التدخلات والوصاية باسم حقوق الإنسان التي ظهرت مع الإدارات السابقة. وهذه السياسة قد تكون أكثر نفعاً في المحافظة على استقرار الدول ومن ثم بناء المؤسسات والنهضة والنمو، عكس ما حدث باسم الديموقراطية في العراق وغيرها. ومن ثم ليس غريباً أن الكوارث والحروب ما هي إلا نتيجة لرؤية صانع قرار وجد في منصبه سواء بالقوة أو بالانتخاب. فالحرب العالمية الثانية كانت نتيجة لتطرف حاكم مثل هتلر في ألمانيا، وحروب العرب على مدار السبعين سنة الماضية لا تخرج مباشرة أو غير مباشرة عن تفسيرات خاطئة لصناع السياسة الخارجية.     * كاتب مصري

مشاركة :